لم يكن للتخطيط الاستراتيجى وجود فى المجال السياسى حتى وقت قريب ، فقد كان مجاله الأثير هو القطاع الخاص، وذلك إلى جانب المجالات العسكرية التى تعد موطنه الأصلى. والحقيقة أن القطاع الخاص عرفه متأخرا جدا عرفه فى الستينيات والسبعينيات ، وسرعان ما لحق به القطاع العام فى الثمانينيات، وكان ذلك بداية ولوج التخطيط الاستراتيجى إلى الحقل السياسى. لقد استعان القطاع العام بالإدارة الاستراتيجية فى تنظيم هياكله الداخلية، أو فى تغيير أساليب تقديم الخدمات، أو فى البحث عن مصادر للتمويل. وكان ذلك مدعاة للفت النظر إلى وجود تباينات بين القطاع العام والقطاع الخاص، ومن هنا ظهرت أدبيات تركز على الطبيعة المختلفة للتخطيط الاستراتيجى فى منظمات القطاع العام والخصائص التى تسمه . من منظور استراتيجى تعتبرالوظيفة الأساسية لأى منظمة فى القطاع العام هى الربط بين الخطوات المؤسسية التى تسعى إلى تحقيق التوازن بين الأهداف من ناحية، والظروف الحالية والمتغيرات المستقبلية من ناحية أخرى . ولما كانت منظمات القطاع العام تعمل فى الإطار الحكومى فإن خياراتها الاستراتيجية تنبثق من عوامل أخرى غير المنافسة على الأسواق التى تشكل خيارات القطاع الخاص . ففى القطاع العام هناك قيود دستورية وترتيبات قانونية واجراءات تنظيمية رسمية، وهناك قيود أيضا على الموارد، كما أن السياق السياسى يفرض عليها قيودا، أضف إلى ذلك التحديد الصارم لنطاق تعاملها، والتمدد الهائل فى نوعية عملائها الذين قد يكونون كل الجماهير. ومعنى ذلك أن خيارات القطاع العام تخضع بدرجة كبيرة لضغوط البيئة الخارجية - قياسا إلى القطاع الخاص ؛ ومن ثم فإن أبجديات التخطيط الاستراتيجى فى القطاع العام تبدأ بالربط بين أهداف المنظمة وطريقة عملها من ناحية وبين القيود والمطالب الخارجية فى حاضرها والمستقبل من ناحية أخرى. هناك أربعة أنماط استراتيجية، هى : الاستراتيجية التنموية وتتوخى تعظيم قدرات المنظمة ومكانتها ومواردها وإيجاد وضع جديد أفضل فى المستقبل. والاستراتيجية الوقائية وتبحث عن ترويض المؤثرات الخارجية مع الحفاظ على الوضع الراهن للمنظمة، وذلك عندما تكون هناك تهديدات خارجية قوية حالية أومتوقعة مع قدرات محدودة للمنظمة. واستراتيجية التحول وهى التى تأخذ على عاتقها اجراء تغييرات جذرية فى المنظمة ، وغالبا ما يكون الاتجاه الاستراتيجى فيها منبثقا من الاستجابة للمؤثرات الخارجية التى تفرضها البيئة المحيطة والتى يكون تأثيرها أقوى من قدرة المنظمة على المقاومة . والاستراتيجية السياسية وتكون فيها المنظمة إما أداة لتحقيق التوازن بين المؤثرات الخارجية والضغوط الداخلية التى تدفع إلى التحول، وإما أن تكون أداة للسياسة الحزبية ووسيلة لمكافأة المؤيدين السياسيين . يبدو من هذا التطور التركيز الواضح على أهمية البيئة الاستراتيجية والنظرة المستقبلية بالنسبة لمنظمات القطاع العام، وأن هناك توجهات استراتيجية تختلف فيها عن القطاع الخاص؛ فقد تتبنى توجهات وقائية تحافظ فيها المنظمة على بقائها فى مواجهة الضغوط الخارجية، أو توجهات تنموية وهى تختلف فيها عن التوجهات التنموية فى القطاع الخاص ، أو توجهات سياسية سواء لخلق نوع من توازن الضغوط بين الداخل والخارج أو كأداة لأغراض سياسية . فى تطور آخرانتقل التخطيط الاستراتيجى إلى الحكومات ، حيث بدأ ينتشر فى القطاعات الحكومية تحت مفهوم «إعادة اختراع الحكومة» . وكانت مقدمات استخدام التخطيط الاستراتيجى فى الحكومة فى أمريكا وبريطانيا نتيجة لتأثير عملية الانتشار ، وكانت منقولة عن القطاع الخاص. التخطيط الاستراتيجى فى المجال السياسى إذ يرادف قيادة السفينة - أو الشفرة الجينية - فإنه لا يعنى مجرد وضع خطة، لكنه يعنى طرح العديد من البدائل ، والاختيار بينها، وتقييمها ، ثم تعديلها إذا وجب الأمر، وذلك لتحقيق أهداف جوهرية . ومعنى ذلك أن التخطيط الاستراتيجى فى الحكومة أو على مستوى الدولة يستلزم توافر شرطين: الأول هو توقع المستقبل والاستعداد لكل احتمالاته وبدائله. والشرط الثانى هو وجود حد أدنى من المشترك الثقافى، أو ما يعرف بالاتفاق العام. وفى هذا يختلف الوضع فى الحكومة عنه فى القطاع الخاص؛ فالمنتفعون فى حالة الدولة كثيرون جدا لاتجوز مقارنتهم مع نظائرهم فى القطاع الخاص، وما لم تتغلغل ثقافة التخطيط الاستراتيجى - بوصفها التجسيد العملى للاتفاق العام - فى ثنايا المنظمة وفى تضاعيف المجتمع فسوف يفشل التخطيط الاستراتيجى. والاتفاق العام - أونظرية القيمة العامة كما يسميها البعض، هو الذى يجعل كل فرد فى المنظمة أو فى المجتمع يسكب مبادراته الخاصة بما يخدم الاستراتيجية أو يستقيم معها، وأن يتصرف مع الفرص ومع التحديات بشكل ينسجم مع توجهات الاستراتيجية، وذلك من تلقاء نفسه ودون توجيه من أحد. لمزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة