حالة خاصة في السينما المصرية بحكم انتمائه لمدرسة' سينما العقل الواحد', تلك التي يكون فيها المؤلف هو المخرج نفسه, حتي يضمن ترجمة أفكاره التي غالبا ما تأتي بعملية تشريح دقيق لهموم وقضايا المجتمع المصري, خاصة مناقشة الجوانب الاجتماعية وانعكاساتها علي مسار السياسية, وعلي قدر ماتحظي الخطوط الدرامية في أعماله التي يقدمها بدقة متناهية فلا تخلو من بسمة ساخرة أو موقف كوميدي طريف في أصعب الظروف.إنه المؤلف والمخرج' محمد أمين' الذي تم عرض فيلمه الأخير' فبراير الأسود' منذ أيام قليلة, الذي يناقش من خلاله قضية تهميش دور العلم والعلماء في مجتمع لا يعترف إلا بقوة السلطة أو الثروة, وهو بطولة' خالد صالح, طارق عبدالعزيز, ألفت إمام, ميار الغيطي, سليمان عيد', عن الفكرة التي يطرحها الفيلم ورؤيته للمرحلة التي يمر بها المجتمع الآن كان لنا معه هذا الحوار. كيف جاءتك فكرة فيلمك' فبراير الأسود'؟ في السنوات الأخيرة قبل ثورة25 يناير تولد شعور غريب بين الناس خاصة أبناء الطبقة المتوسطة بأن من يريد العيش في هذا البلد بأمان لابد له من وجود ظهيرأو سلطة تسنده وإلا سيعيش علي الهامش دون أن يشعر به أحد, ويكون عرضه لأي مشكلة تقع له بصرف النظر عن الحالة المادية لهذه الطبقة, والظهير هنا كان الانتماء للحزب الحاكم أو لطبقة رجال الأعمال أو لإحدي الفئات المتحكمة في السلطة, وعندما قامت الثورة كنت أتصور أن هناك إعادة ترتيب لفئات المجتمع كل حسب أهميتها, ومن هنا جاء التفكير في المنهج العلمي والعلماء وإعادتهم للصدارة حتي نبني دولة عصرية, علي هذا الأساس بدأت في بنيان الهيكل الرئيسي للسيناريو. دائما ما نجد العلماء المصريين بعيدين عن المشهد بإرادتهم فكيف تعيدهم أنت ؟ أي مجتمع متقدم لابد أن يمتلك طاقة بشرية ترسم وتخطط له حتي يتقدم بأسلوب علمي ممنهج, ونحن في مصر لدينا العديد من العلماء أوعلي الأقل لدينا أصحاب العقول المستنيرة في مجال البحث العلمي, لكن المجتمع لا يضعهم في أماكنهم الصحيحة, بدليل أن العالم المصري عندما يسافر إلي أوروبا وأمريكا يحقق نجاحات كبيرة, وهناك أمثلة كثيرة منهم العالم الشهير الدكتور' أحمد زويل' و جراح القلب' مجدي يعقوب' وغيرهم, وهنا يطرح الفيلم سؤالا مهما: هل هؤلاء العلماء ابتعدوا عن المشهد بإرادتهم أم تم تهمش دورهم رغما عنهم؟, وهل بناء الدولة الجديدة سيتم عن طريق الأسلوب العلمي أم علي طريقة أصحاب الولاء للسلطة؟, لقد حاولت داخل أحداث الفيلم مناقشة هذه النقطة خاصة أن العلماء هم من أوائل الناس الذين يشعرون بعدم الأمان في مصر. الفيلم يشير إلي إهدار دولة القانون في المجتمع رغم أن الأحداث تدور قبل الثورة ؟ إهدار القانون له أشكال متعددة, منها الشكل الحالي الذي نراه أمام أعيننا الآن من قرارات خاطئة تؤدي إلي كوارث, لكن هناك شكلا آخر كان يحدث في السابق نتيجة حالة التوحش التي كانت موجودة في المجتمع, فزواج السلطة والثروة كان أحد هذه الأشكال, فأستاذ الجامعة الذي وصل إلي أعلي الدرجات العلمية كان معرضا أن يبيت ليلة في قسم شرطة لأي سبب, إلا لو كان له صديق أو قريب في السلطة يتوسط له, وهناك العديد من حالات اغتصاب أراض من أصحابها لصالح آخرين يمتلكون السلطة أليس هذا إهدارا لدولة القانون؟ لكن المشاهد يشعر بأن أستاذ الجامعة لديه خلل في التوازن والتعامل مع المجتمع مما جعله يتحول بسهولة, ما سبب ذلك؟ المتابع لأحداث الفيلم سيجد أن شخصية الدكتور' حسن' مرت بمستويين من التفكير, الأول هو التفكير بأن المكانة العلمية تعطي له حصانة في التعامل, خاصة أنه متفوق ويقدس العلم الذي يدرسه للطلبة في الجامعة لدرجة أنه عندما فاز دكتور زويل بجائزة نوبل قام برفع العلم المصري فوق سطح منزله, وكان ينصح الطلبة اليائسين بأن ينشروا الأمل في المجتمع, معني ذلك أنه كان لديه اتزان نفسي داخلي يرتكز إليه, إلا أنه بعد ذلك حدثت له حادثة في شهر فبراير عندما ذهب في رحلة مع أسرته وبعض العائلات الأخري تعرضوا جميعا لعاصفة كادت أن تدفن الجميع في الرمال, وعندما جاءت فرق الإنقاذ أنقذت أحد ضباط الشرطة وأسرته, وأحد القضاة وأسرته, وتركت أستاذ الجامعة وعائلته لتنقذهم الذئاب, هذه الحادثة كان لها تأثيرها النفسي عليه فقد شعر للوهلة الأولي أن وزنه في المجتمع الذي يعيش فيه يأتي في المرتبة الثالثة, مما أحدث له حالة من عدم الاتزان الداخلي أثرت في حكمة علي الأشياء. كنت قاسيا جدا مع الدكتور حسن الذي شعر بالقهر وبدأ في سلسلة تنازلات ؟ انكسار الحلم داخل الإنسان وشعوره بأن حقه في الأمن والأمان مهضوم في بلده يجعله يبحث عن مخرج مما هو فيه, فيحاول أن يدخل تحت مظلة الأمان بأي ثمن سواء عن طريق الهجرة للخارج, أم عن طريق مصاهرة أصحاب السلطة, من هنا يتخلي عن بعض مبادئه التي عاش مؤمنا بها, لكنه أيقن أنه لا فائدة من ذلك, ودعني هنا أتحدث عن التركيبة النفسية التي تتحكم في أصحاب العلم, والتي تختلف عن باقي فئات المجتمع, فرجل العلم يشعر بداخله أن لديه رسالة لابد أن يكملها وهي الارتقاء بالمجتمع الذي يعيش فيه, لذلك فهو يحتاج للشعور بأن هذا المجتمع يقدر ما يفعله رجل العلم من أجله, ويبني علي ذلك بعض الروابط الاجتماعية التي تشكل عصب العلاقات العامة بينه وبين المجتمع, فإذا حدث خلل في هذه العلاقة ينتقل علي الفور لصاحب العلم الذي لا يجد العوامل المساعدة للإبداع, وعلي سبيل المثال شقيق حسن الأستاذ في الكيمياء ومتزوج من أستاذة في الفيزياء, لكنهم لم يجدوا حولهم عناصر النجاح أو حتي التقدير المادي فقاموا بتحويل معمل الكيمياء إلي مصنع للطرشي, وهي رمزية ساخرة تصف ما وصل إليه رجل العلم في مصر, وتستطيع أن تقيس هذه العوامل علي فئات مختلفة من الشعب لتتفهم ما يحدث في المجتمع من تناقضات. رغم التركيز علي قوة السلطة والثروة فإنك أقحمت كرة القدم في الموضوع لماذا ؟ خلال العشر سنوات الأخيرة كان زواج السلطة والثروة يعطي قوة كبيرة لبعض الفئات داخل المجتمع, لكن بجوار هؤلاء كان هناك اهتمام خاص بلاعبي كرة القدم الذين كانوا قريبين جدا من الرئيس وأبنائه الذين يحضرون المباريات أو يجتمعون معهم بعد كل انتصار, سواء كان ذلك يتم عن عمد أو عن حسن نية, فإن قرب لاعبي الكرة من الرئاسة وتسليط الضوء علي هذه العلاقة جعل أستاذ الجامعة يفكر في أن يصبح ابنه لاعب كرة قدم حتي يكون ظهيرا للعائلة تحتمي به, لذلك أعتقد أن هذا المشهد من نسيج العمل الدرامي وليس مقحما عليه. لماذا لجأت للنهاية المفتوحة ؟ المدي الزمني الذي يناقشه الفيلم ينتهي قبل ثورة يناير مباشرة وطوال هذه الفترة تبحث العائلة عن عريس للابنه' ريم' يكون صاحب سلطة وبالفعل يتم خطبتها لضابط أمن دولة, لكن أثناء الخطوبه نسمع أصوات المظاهرات تعلو بشكل كبير فتتوقف الخطوبة لعل وعسي أحوال العلماء تنصلح أو يفضل هذا الضابط في الخدمة, لذلك لجأت للنهاية المفتوحة لأني لا أعلم ماذا سيحدث في المستقبل فتركتها لخيال المشاهد. لماذا لجأت مؤخرا لعدم التعاقد مع نجوم الشباك؟ منذ بدأت مشواري الفني وأنا أسير علي خط أساسي وهو قوة الموضوع الذي أقدمه, ثم البحث عن الممثل الذي يستطيع ترجمة أفكاري ونقلها من الورق إلي الشاشة بشكل جيد, مع الوضع في الاعتبار مدي قدرة المخرج علي إدارة ممثليه, وهنا يتم تقسيم الممثلين إلي نوعين نجوم فنانين ونجوم شباك, لذلك اخترت مجموعة العمل علي أساس الكفاءة والتعامل بروح الجماعة, لأن الفيلم بطولة جماعية وليس بطلا أوحد, رغم أن الفنان' خالد صالح' نجم كبير قدم العديد من البطولات في أفلام ناجحة, والحمد لله مردود الفيلم علي مستوي الإيرادات حتي الآن يعتبر جيدا في ظل الظروف الراهنة والحراك السياسي المتحكم في المشهد حتي الآن. معني كلامك أنك تنتصر في المقام الأول لسينما المؤلف ؟ الفيلم السينمائي ناتج عن انصهار مجموعة أفكار مشتركة بين مؤلف ومخرج ومصور وممثل ومنتج, لكن يبقي المخرج هو سيد الموقف ورؤيته هي الأساس ويستطيع أن يغير في الأحداث حسب وجهة نظره, فعندما قدمت كمؤلف فيلمي' افريكانو' و'جائنا البيان التالي' جاء الفيلمان تعبيرا عن وجهة نظر عمرو عرفة وسعيد حامد, أما أفلامي التي كتبتها وأخرجتها مثل' فيلم ثقافي' و'ليلة سقوط بغداد' و'بنتين من مصر' وأخيرا' فبراير الأسود' هي تعبير عن وجهة نظري, وكنت أري أمامي المشهد وأتخيله كما هو وأنا في مرحلة الكتابة, وفي كل مرة كنت أسأل نفسي كيف تترجم أفكارك بشكل بسيط لايخلو من السخرية اللاذعة حتي يتفهمها الجمهور؟, لذلك أعتبر أن أفلامي الأربعة عبارة عن حلقات متصلة تكمل بعضها وتناقش كل حلقة مشكلة أو ظاهرة موجودة في المجتمع, فمثلا' فيلم ثقافي' ألقي الضوء علي الكبت الجنسي وتهميش المجتمع بكل مستوياته, وقال في النهاية جملة مهمة' العيب في النظام', وفي فيلم' ليلة سقوط بغداد' كنت أقول لمن يتصورون إن الحرب في العراق بعيدة عنا إن الخطر أقرب مما نتصور, وعلينا أن نعمل له حساب, أما فيلم' بنتين من مصر' فقد تحولت مشكلة عنوسة البنات الي مأساة في مجتمع عقيم وصل بكل آلياته الي طريق مسدود فوقع الإنفجار, وأخيرا' فبراير الأسود' يناقش الظلم الواقع من تهميش لدور العلماء والقوة الأكثر سطوة في المجتمع, هذه الأفكار ترجمتها بنفسي لشعوري بكل كلمة داخل السيناريو, ولم أتصور أحدا غيري في هذا الموقف. كيف تري حال السينما المصرية الآن ؟ من وجهة نظري أعتقد أن السينما المصرية تمر بأزمة كبيرة لم نر مثيلها من قبل, فالإنتاج أصبح قليلا بشكل كبير بسبب عوامل مختلفة, فالسينما تعتمد بشكل أساسي علي ثلاثة عناصر إنتاجية هي' الموزع الخارجي- الفضائيات- المنتجين', المشكلة أن الموزع الخارجي شبه انتهي من الحالة السينمائية منذ فترة, والفضائيات التي كانت تشتري الأفلام وتساعد في إنتاجها ابتعدت عن ذلك مرغمة لعدم وجود فلوس, أما المنتجون فلديهم مشكلة أكبر وهي الخسارة الدائمة من عزوف الناس عن الذهاب للسينما بسبب الحالة السياسية والأمنية الحالية, بالإضافة لغلاء المعيشة, كل هذه العوامل تؤثر بشكل كبيرعلي مستقبل السينما الذي أخشي ما أخشاه أن تتوقف عن الإنتاج في يوم ما.