لم يحضر أحد.. ألغيت حفل الساعة الثالثة لعدم وجود متفرجين.. حفل الواحدة ظهرا شاهده نفر قليل جدا لا يزيد علي أصابع اليد الواحدة.. وبدون الجمهور لا تتم الفرجة. غاب أحد أهم طرفي المعادلة في هذه العملية الفيلم « الجمهور يعني ان الفيلم موجود باختصار بدون جمهور لا يوجد فيلم. السؤال: ما السبب في انصراف جمهور السينما عن فيلم مصري مهم مثل "فبراير الأسود" "2013" واختفائه في واحدة من أهم دور العرض داخل مجمع سينمائي وسط العاصمة؟!! السبب الأول في هذه الحالة ان ثمة كساد عام يطغي علي سوق الاستهلاك التجاري في هذه الفترة الحالكة من تاريخ التطور الاجتماعي في مسيرة الشعب المصري.. فالأفلام عموما لا تحقق ايرادات ومجموع الايرادات في هذا "المجمع" لجميع الأفلام المعروضة في الصالات المتجاورة هزيل جدا. هكذا أكد مدير المجمع السينمائي. الأسبوع الماضي أشرت إلي عدم وجود جمهور في السينما التي كانت تعرض فيلم "لنكولن" واحد من أهم الأفلام هذا العام الذي حصل علي جوائز الأوسكار ومنها أحسن فيلم فضلا عن كونه من إخراج أحد أهم المخرجين الموجودين علي قيد الحياة "ستيفن سبلبرج" الفيلم كان معروضا في مجمع سينمائي آخر. وهناك سبب آخر إلي جانب الكساد العام لسوق الفيلم وبالإضافة للأسباب الموضوعية التي ذكرتها وهو المزاج السائد للجمهور وللشباب بشكل خاص الذي لم يعد يشده إلي حيث الصالات المظلمة بعيدا عن الميادين المفتوحة إلا عمل ترفيهي "جامد" يلهيه مؤقتا عن الأمور الحياتية المعقدة والتي تزداد تعقيدا وتفرض نفسها علي نحو متواصل.. يغلب علي المرحلة الآتية لون الدم وطعم الدموع. سواد بلا ضحك وفيلم المخرج محمد أمين ليس العمل السينمائي الجماهيري الجامد الذي يغري المتفرج من الوهلة الأولي رغم أهمية موضوعه.. ولا يملك مقومات الجذب القوية. أبطال "فبراير..." ويتقدمهم خالد صالح ليسوا ممن "يشيلون" فيلم حسب ما قال أحد العاملين في دار العرض والمقولة ليست صحيحة لأن الممثل كان بطلا لأفلام ناجحة حديثة مثل "هي فوضي" و"الريس عمر حرب" لكن العرض تم في زمن آخر وسياق اجتماعي ومزاجي مختلف! محمد أمين مؤلف الفيلم ومخرجه لا يدخل ضمن صناع التوليفة التجارية الشعبية مثل خالد يوسف ووائل احسان.. إلخ.. انه مخرج من نوعية مختلفة جاد أخرج أربعة أفلام متميزة ومتفاوتة القيمة فنيا وتطرح جميعا موضوعات اجتماعية مهمة وان ظل أكثرها لمعانا وقيمة فنية فيلمه الأول "فيلم ثقافي" "2000" الذي يناقش مسألة الكوابح الجنسية وتداعياتها علي الشباب الصغير في مجتمع محافظ ومنافق أيضا.. واختار كأسلوب للطرح نوعية الكوميديا العميقة التي يختلط فيها الضحك بالمرارة والسخرية اللاذعة دون أن يصل المزاج في الفيلم إلي درجة السواد ومن دون أن ينحرف عن سمة الطرافة والدعابة الخفيفة التي تكرس ما يريد ايصاله من صور وأفكار ومفارقات كاشفة بطريقة ليست تقليدية. وفي فيلمه الثاني "ليلة سقوط بغداد" "2005" أضاف للمشكلة الاجتماعية جرعة من الهموم السياسية المستجدة ومنها الهم القومي الذي يطول المنطقة العربية بأسرها. كما يشير العنوان ولكن من دون أن يتواري الهاجس الجنسي مع لجوء إلي المباشرة في لغة التخاطب للتنبيه إلي خطورة الغزو الأمريكي للعراق وحتمية المواجهة. ولم يخفت الحس الكوميدي وانما تراجع نسبيا المستوي الفني عن العمل الأول ولكن زاد اللون الكوميدي درجة واقترب من السواد ولكن من دون تجهم. ويعتبر الطابع الجاد سمة واضحة في تناول محمد أمين للمشكلات التي يطرحها والتي تفرض في معالجتها هذا اللون من الكوميديا الذهنية التي تستفز التفكير وتستدعي المشكلات التي يجدها المخرج صانع الفيلم ملحة حتي تطغي أحيانا علي الجانب الترفيهي. في فيلم "بنتين من مصر" "2010" يتواري الضحك إلي حد البهتان وتغرب البهجة اللازمة لتمرير المرارة المرافقة لحكاية بطلتيه وتصبح اللزوعة بطعم العلقم! قضية "العنوسة" وتزايد معدلاتها تفرض المزاج العابس وتزيد الهم الاجتماعي وطأة والعنوان الذي عادة ما يكون دالا وموحيا يشير إلي أزمة البطلتين اللتين يواجهان حالة مستعصية من الخلل المجتمعي تجعل الأمل في الحصول علي عريس مناسب دربا من المستحيل بالنسبة لبنات عاديات لا يملكن امتيازا استثنائيا "الثروة والجاه".. والقضية حسب التناول تتجاوز الشخصي إلي العام انها محنة مجتمع ناله ما ناله من أوجاع فعجز أفراده عن تحقيق "سنة الحياة" أي زواج وحياة أسرية طبيعية رغم الاستعداد لتقديم تنازلات. فالبنات أصحاب المشكلة لا يفتقدن الوسامة ولا الأخلاق القويمة لأن المشكلة أعمق وأكثر تجذرا ومن ثم تعبر عند معالجتها سينمائيا حدود الملهاة السوداء إلي أرض المأساة. وفي هذا الفيلم الأخير "فبراير الأسود" نلاحظ ان المخرج لجأ إلي "خصخصة" المشكلة العامة واختار أفراد دون غيرهم من فئة حملة الدكتوراة. العلماء أساتذة الجامعة واختار من بينهم أقل النماذج تمثيلا لها.. وهما حسن "خالد صالح" العالم الاجتماعي واستاذ الجامعة وشقيقه صلاح "طارق عبدالعزيز" عالم الكيمياء.. الاثنان يفتقدان الأمن والأمان في دولة لا تعترف إلا بأصحاب النفوذ المباشر الذي يحقق مصالحها وهؤلاء هم ضباط أمن الدولة. والقضاة وأصحاب الثروات "رجال الأعمال" أما أمثال حسن وصلاح فعليهم إما أن يهجروا الوطن كما هجرهم أو يبحثوا عن وسيلة تقربهم من الفئات المحظوظة وقد جرب "حسن" أن يختار لابنته الشابة الجميلة "ميار الغيطي" عريسا من أهل الحظوة وكذلك جرب فكرة الهجرة من الوطن بالسعي إلي الحصول علي جنسية بلد "محترم" من خلال مولود جديد يتم ميلاده في وطن يمنحه جنسية أخري. أما الشقيق الثاني "صلاح" فقد اختار هو وزوجته أن يفتح محل طرشي أسماه "طرشي نيوتن" إمعانا في السخرية من اسم العالم نيوتن وما يمثله من علم ودور للعلم في النهوض بالمجتمع. اختار علماء "فبراير الأسود" الطريق الانتهازي لتحقيق طموحهم أن يبيع حسن الابنة طلبا للنسب والمصاهرة مع الفئة المحظوظة وأن ينقل الابن طالب المدرسة من مكانة الطالب المجتهد الحريص علي العلم إلي فئة لاعبي كرة القدم حتي يحقق الشهرة والثروة ومن ثم النفوذ أي انه كفر بالعلم والاجتهاد سبيلا للأمن والأمان وبحث عن الطرق الأخري. الأسرة المصرية المتوسطة شهدت تطورا مزاجيا غريبا في أفلام محمد أمين حتي وصل علماؤها إلي منحدر فكري وعملي رديء والسبب حادث كارثي مفتعل جرت وقائعه في شهر فبراير عام 2010 أي قبل ثورة 25 يناير بعام واحد.. فالعنوان يشير إلي تاريخ رحلة الشقيقين "حسن وصلاح" وأسرتيهما وأصدقائهما إلي الصحراء لاكتشاف جمال الطبيعة المصرية وتعرض الجميع لعاصفة ترابية شديدة أثناء الرحلة حتي كادوا يغرقون في بحور الرمال التي غطتهم.. وعندما وصلت استغاثتهم إلي المسئولين لم يتم انقاذ العلماء وانما أصحاب النفوذ والحظوة فقط. أما العلماء فقد تم هجرهم لمصير مجهول ولم ينقذهم سوي جماعة من الكلاب العملاقة. ولا تسأل كيف ظهر وكيف تجمعت هذه الحيوانات وقامت بجرهم إلي مكان آخر. فالمشهد نفسه تم تنفيذه بطريقة جيدة ولكنه مفروض وخارج السياق ولا يعدو "اسكتش" طريف يحمل معاني رمزية ساخرة. الأفكار العادية لا تثير ان تحويل الأفكار العادية التي يطرحها الناس في جلساتهم إلي دراما سينمائية غير عادية تثير الاهتمام يتطلب صياغة فنية متكاملة وجذابة من حيث الشكل والجوهر وبحيث تكتسي الأفكار بلحم ودم أي بشخصيات قادرة علي توصيلها إلي الناس من دون ملك. وفي الأفلام السينمائية يعتبر "الترفيه" عنصرا أساسيا للجمهور دافع التذكرة وكذلك تمثل المتعة الفنية للمتلقي المتذوق ناهيك عن النقاد. ضرورة حتمية تمنح العمل قيمة ومعني يستحق الوقت والجهد في المتابعة. و"فبراير الأسود" لن يرضي الجمهور الباحث عن الترفيه ولا النقاد الذين يتوقعون من المخرج الجاد تطورا علي المستوي الفني خصوصا لو كان يقدم عملا كل خمس سنوات. العمل الأخير يأتي بعد ثلاث سنوات فقط في إشارة حميدة تبعث علي التفاؤل.. ولكنه للأسف يعتبر أقل الأعمال الأربعة توفيقا في تحقيق رضا الطرفين "الجمهور والنقاد". فالفيلم محروم من المقومات الفنية المثيرة وأيضا! انه يفتقد التماسك علي مستوي الحبكة. كثير الثرثرة. خال من الحرارة شعوريا والضحك التلقائي المتولد عن موقف أو إفيه معدوم تقريبا! بعض المشاهد "الضاحكة" مصطنعة ومكررة وغليظة الذوق أشير إلي مشهد عيادة الطبيب برمته. شخصية الطبيب "نبيل الهجرسي" والممرضة "أمينة ..." والزبائن وهما عالما الاجتماع والكيمياء. هنا الحوار والأداء التمثيلي والمحتوي الموضوعي في قمة الابتذال يكرس "الآفة" المزمنة التي لا يخلو منها الفيلم المصري وأعني الإلحاح علي الإيحاءات الجنسية والمعالجات المباشرة لموضوع "الذكورة" وما يتبعها من حوارات والمشهد يذكر بأجزاء من فيلم "بابا" إنتاج .2012 هناك بعض المشاهد الذي تم تنفيذها بطريقة جيدة مثل مشهد الغرق في الرمال وجماعة الكلاب "من انتاج الكمبيوتر". وهناك مطبات أساسية علي المستوي الفكري تكسر حالة التواصل الضرورية مع ما يريد المخرج المؤلف طرحه. فالأفكار يتم ايصالها عبر نماذج "مرفوضة" قلبا وقالبا لأنها هي نفسها تعاني من انتهازية وفساد وبراجماتية كريهة. بدءا من حسن وصلاح وريم وحتي نزهي مدرب الكرة "سليمان عيد" ومن ثم يخلو الفيلم من شخصية واحدة يمكن تمثلها أو التعاطف معها أو حتي الاقتناع بها علي مستوي التشخيص وفكرة "طرد الوطن" الذي يطرد هذه الشخصيات وتمثيلها بأغنيات وطنية تذكر بالأغنيات التي أذيعت بكثرة عند سقوط مبارك يحولها إلي لغو استهلاكي أو إلي سخرية من "11 فبراير" باعتباره تاريخاً أسود وليس انتصارا ولو جزئيا لثورة 25 يناير.. ومن الآفات الفنية القاتلة تسلل الإحساس بالملل أثناء عرض العمل الفني ومن بين أعراض القبول عنصر "الاندماج" مع الأحداث وتطورها والوصول إلي نهايات مقنعة أو التلويح بنهايات ترضي توقعات المستقبل للفيلم. لماذا "فبراير الأسود" وما هو المغزي. وما المقصود بالنهاية؟؟ ومن "فبراير" في هذا السياق؟؟!!