بقدر ما قال الحكيم القديم 'تكلم حتي أراك'.. بقدر ما طالب علماء الاجتماع الجدد بمشاهدة الفنون حتي يحكمون علي شعب من الشعوب، وأمة من الأمم.. إذ إن الكلام، والحكي، والصورة والنحت، والدراما.. جميعًا أدوات للتعبير، ولتجسيد الأحلام والرؤي التي تشتبك مع واقعها، لتخرج لنا زادًا فنيًا يمتعنا بقدر ما يبصرنا، ويوعينا ويؤلمنا. كانت ثورة 25 يناير 2011 بمثابة إعصار شعبي أطار صواب المبدعين، وجعلهم يذوبون في موجات المدّ الشعبي العارم.. الأمر الذي استعصي معه التقييم الصادق والأمين، أو التعبير الفني العميق والدقيق عن الثورة، أو تلك اللحظة التاريخية الفارقة في حياة المصريين. فمعظمهم إن لم يكن جميعهم أعلنوا التريث مع التأمل الفاعل والخلاق، حتي يستطيعوا استخلاص الجواهر من تلك الرمال المتحركة التي مازلنا نتنفسها وتخنقنا!! بعد عامين من عمر الثورة ثبتت صحة مقولة هؤلاء المبدعين.. فالأعمال الإبداعية والفنية التي حاولت التعبير عنها جاءت تشوبها العاطفة إن لم يكن الابتسار والتسجيلية.. فما تزال عوامل التعدي تضرب جنبات المجتمع المصري.. وما يزال المجتمع المصري يشهد ما يشبه 'السونامي' من قبل تيار الإسلام السياسي الذي أفزع الجميع وهو يرفع راية الدين والشريعة.. وأخيرًا تشكيل الميليشيات.. وهو يتحرك في كل الاتجاهات، وبأسرع مما يتوقع الشعب، لاغتصاب جميع السلطات، وتأميمها لصالحه دون سواه من التيارات السياسية والوطنية الأخري التي قامت بالثورة وآمنت بشعارها 'عيش، كرامة، عدالة' وبإقامة دولة ديمقراطية مدنية، حديثة.. لا دينية ولا عسكرية. والسؤال: أين فنوننا في ظل مفترق الطرق هذا؟.. وظل تناحر الفريقين المتناقضين المتصارعين الديني، والمدني.. من يؤمنون بالسمع والطاعة، ومن يؤمنون بالحريات وحق المواطنة.. الغريب حقًا أن يأتي فيلم 'فبراير الأسود' ليكشف لنا اللحظة الراهنة والفارقة التي نحياها دون قصد منه أو من صانعيه 'محمد أمين' المؤلف والمخرج، وأبطاله خالد صالح، طارق عبدالعزيز، أمل رزق، مايا الغيطي.. وهم يطرحون السؤال المفزع: ماذا لو وقف المجتمع علي رأسه لا علي قدميه؟.. وقد رأينا السؤال نفسه في فيلم أتي ليعبر عن مرحلة تحول رهيبة في بداية السبعينيات علي يد 'السادات' و'الانفتاح السداح مداح'.. فرأينا فيلم 'انتبهوا أيها السادة' للمخرج محمد عبدالعزيز والمؤلف أحمد عبدالوهاب وبطولة كل من 'محمود ياسين' و'حسين فهمي'.. وماذا حدث لمجتمع صار فيه 'الزبال' في قمة السلم الاجتماعي بينما أستاذ الجامعة في أسفله!! ويظل السؤال البديهي يطرح نفسه أمام عنوان الفيلم بداية 'فبراير الأسود' لماذا هو أسود؟! خاصة أن لحظة رحيل 'المخلوع' رأس النظام البائد تحددت في 11 فبراير 2011؟! فهل الفيلم يأتي ضد ذاك الرحيل، ويهيل التراب علي ما بعده؟! وبالتالي يأخذ موقفًا سلبيًا من الثورة الشعبية المجيدة؟! أم أن الفيلم أبعد أن يكون عن هذا وذاك؟. نعم إن عنوان الفيلم يتعلق بأبطاله أكثر ما يتعلق بالثورة، وبرحيل المخلوع، لأنه يتعلق بحادثة مأساوية حدثت لأبطاله في صحراء مصر، جعلتهم يتحولون لمواطنين يشعرون بالانتماء والعزة والكرامة لمصر المصريين.. إلي مواطنين يحاولون الفكاك من أسر هذه المواطنة والوطنية!! وهم يحاولون بكل السبل غير المشروعة الطفو إلي سطح المجمع 'كالفطر الضار'!! بعد أن تكسر إيمانهم بدولة القانون بحقوق المواطنة.. وصار البقاء للأقوي والأكثر نفوذًا.. فعندما تتزاوج السلطة والثروة لا تصبح للمواطنين الأصحاء والصالحين مساحة لا للحرية، ولا التنفس ولا حتي العيش!! إن العاصفة الرملية العاتية 'تسونامي الصحراء' التي هبت علي أسرة عالم الاجتماع 'خالد صالح' وشقيقه عالم الفيزيا 'طارق عبدالعزيز'.. وحولتهم إلي كائنات شائهة وتحديدًا في واقعة 10 فبراير 2010 عندما أرادوا القيام بسياحة داخلية يكتشفون فيها جغرافيًا مصر الممتدة، إن تلك الواقعة بهذا التسونامي المتصحر.. تحمل أكثر من دلالة فكرية، ومادية، ومعنوية تكتشفها عبر أحداث الفيلم.. وهي تحاول تشخيص النظام القديم في استبداده بطريقة الفانتازيا أكثر من كونها تبصرنا بالنظام الحالي.. الذي للأسف الشديد ما يزال يسير علي خطي الماضي بحذافيره دون أن يخلق مسارًا ثوريًا مستقلاً ومغايرًا كما كانت جميع القوي الثورية والوطنية تأمل وتريد.. ولهذا يظل السؤال الأخير والحال للفيلم ساري المفعول.. أين العلم والعلماء من لحظتنا الراهنة؟! إن الفيلم وكعادة صانعه 'محمد أمين' في سلسلة أفلامه الثلاثة الأخري فيلم ثقافي ليلة سقوط بغداد اثنين من مصر يأخذ بمنهج التجريب الذي أسسه في الثمانينيات السينمائي المبدع 'رأفت الميهي' الذي اعتمد فيه علي 'الفانتازيا' أي الخيال المجنح، الممزوج بالكوميديا، والسخرية المريرة. وقد تجلي في العديد من الأفلام منها علي سبيل المثال: سمك لبن تمر هندي، السادة الرجال، سادتي آنساتي، قليل من الحب كثير من العنف وغيرها.. إذن سينما 'أمين' تأتي علي هدي من سينما 'الميهي'.. فبينهما متشابهات عديدة في مقدمتها سينما المؤلف المخرج.. أو السينما المدججة بالأسئلة الساخنة والقضايا الجوهرية والأساسية والمسكوت عنها، حتي إن غلفتها بقطع من سكر الكوميديا وشطحات الخيال.. والسؤال الجوهري الآن: هل ستسمر هذه السينما في العطاء أمام العراقيل والصعاب والشباك المنصوبة تجاهها.. أم ستنقرض أمام هذا المدّ السونامي الجديد الذي يحارب الفنون والآداب ويحاول النيل منها.. بل اقتلاعها بجميع السبل بما فيها التكفير والتشويه!! وأخشي ما أخشاه.. أن تلصق صفة السواد ليس بالكوميديا التي تدور فيها أحداث الفيلم.. وإنما بتاريخ فبراير تحديدًا.. بعد أن تترسخ أقدام ذاك التيار ويقبض علي الفنون والآداب والعلوم بقبضة من حديد.. لنري أنفسنا في النهاية في مصاف الدول الفاشلة.. أو ليس هذا مؤشرًا علي كون 'فبراير' بل سائر الشهور صار أسود حقًا؟!