صدر قبل بضعة أيام قرار بإغلاق المحلات التجارية والمقاهى عند العاشرة مساء والمطاعم عند الثانية عشرة واستثناء الأماكن السياحية والمنشآت الحيوية من القرار.. وبعيداً عن التراشق الإعلامى المقيت بين الحكومة ومعارضيها على خلفية مصالح سياسية ضيقة أو صراعات أيدلوجية، دعونا ننظر إلى القرار بموضوعية لنرى ما يحمله من سلبيات وإيجابيات. ولنبدأ بالجانب المشرق كما قد يكون تجلى فى ذهن متخذ القرار ودفعه للإقدام على اتخاذه. إن الغرض الأساسى من وراء القرار هو تخفيف الضغط على ميزانية الدولة من خلال توفير نفقات المحروقات التى تستخدم لتوليد الطاقة عن طريق خفض الاستهلاك بإغلاق الأماكن التجارية ليلاً. ورغم أن القرار لن يساهم بشكل مباشر فى حل أزمة انقطاع الكهرباء فى ساعات الذروة حيث لا تكمن المشكلة فى وجود مصادر الطاقة بل فى وجود محطات التوليد،فى نفس الوقت الذى لا يمكن تخزين الكهرباء عند توليدها ليلاً مثلاً لإعادة استخدامها فى ساعات الذروة. ورغم ذلك إلا أنه قد يكون له مساهمة غير مباشرة من خلال تخفيف الضغط على محطات التوليد أثناء الليل مما يعطى فرصاً أفضل لصيانتها وتقليل استهلاك مكوناتها وتقليل الانقطاع الذى يكون سببه أحياناً خروج بعض المحطات من الخدمة بشكل مؤقت بسبب الأعطال. كما أن القرار يهدف إلى تحريك ساعات العمل فى البلاد عموماً باتجاه التبكير فى بدأ مواعيد العمل وإنهائها وهو شىء مندوب فى الإسلام كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام "بورك لأمتى فى بكورها" وما يرافق ذلك من زيادة لفاعلية الأداء أثبتتها الأبحاث العلمية فى مختلف أنحاء العالم مع توفير طاقة الإنارة وسهولة تنظيم الوقت خصوصاً لدى المسلمين بحيث تنتظم حياتهم ومواعيد نومهم واستيقاظهم بشكل أكتر اتساقاً مع شعائرهم الدينية مثل الصلاة. وأضف إلى ذلك أيضاً أن عودة الناس المبكرة إلى منازلهم ستعزز من العلاقات الأسرية وتمنح أفراد العائلة عموماً فرصاً أكبر للتلاقى والاختلاط وتمنح الآباء والأمهات مجالاً أوسع للاهتمام بأبنائهم فى ظل الانحلال والتفكك الأسرى الذى بدأ ينهش فى المجتمع نتيجة انشغال الوالدين بتدبير لقمة العيش لأولادهم. ومع ذلك كله إلا أن القرار له جوانب أخرى سلبية بل أن صح التعبير هى كارثية بامتياز لا اعتقد أنها وضعت فى الحسبان عند اتخاذه وأتساءل، إن كانت الحكومة فعلاً قادرة على مواجهة الآثار المترتبة عليها خصوصاً الغضب الشعبى الذى سينفجر بعد هذا التأثير الكارثى الذى ومنعاً للإطالة سألخصه فى نقاط بسيطة. تطبيق الإغلاق المبكر بهذا الشكل المفاجئ سيضيق على مستوى دخول الأفراد فى ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التى تعيشها البلاد أصلاً منذ ما بعد الثورة. سيؤدى القرار إلى رفع مستوى البطالة المرتفعة أصلاً نتيجة انحسار فرص العمل الليلية التى كانت توفرها المتاجر. سيؤدى القرار إلى ارتفاع مستوى الانفلات الأمنى إلى درجة لن تتمكن الدولة من مواجهتها وستصبح ضواحى القاهرة أقرب إلى ضواحى مانهاتن. ففى ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة مع وجود جهاز أمنى حتى الآن ما تزال فعاليته ضعيفة وشبه انعدام للوازع الدينى والأخلاقى فى المجتمع، حيث سيدفع القرار بمزيد من العاطلين إلى الشوارع خصوصاً بعد أن أغلق فى وجههم ملاذهم الأخير الذى وإن كان مذموماً ولكنه كان على الأقل أسوأ الضررين. فأين ستذهب هذه الملايين العاطلة التى اعتادت أن تقضى ليلها فى المقاهى كافة آذاها عن الناس؟ الإجابة بسيطة.. يتصور مصدر القرار أنهم سيعودن إلى منازلهم ويحثهم على ذلك، ولكن الحقيقة أنهم سيندفعون ليقضوا وقتهم فى الشوارع، وحِّدث ولا حرج حينها عن ازدياد حالات التحرش والإزعاج فى الوقت الذى ستخلوا فيه الشوارع بشكل رسمى من غيرهم نتيجة إغلاق المحلات والأنشطة التجارية. سيؤدى القرار إلى مضاعفة أزمة المرور الخانقة أساساً، فهناك الكثيرون ممن اعتادوا أن يقضوا حاجاتهم ما أمكن فى فترة المساء بعد أن يخف الزحام والآن نحن نجبرهم على التواجد فى الشارع فى ساعات الذروة ليدركوا المحلات قبل إغلاقها. دون أن ننسى أيضاً زيادة الضغط النفسى على المواطنين نتيجة محاولاتهم المستميتة بعد أن إنهاء أعمالهم لإدراك المتاجر قبل أن تغلق أبوابها وحدث حينها عن كمية المشاكل والمصادمات والشجارات التى ستشهدها الشوارع. يحمل القرار فى طياته نوعاً من التناقض اللامنطقى فى نظر غالبية الناس، فكيف تمنع من يسعون فى لقمة العيش الحلال من العمل بعد العاشرة وتسمح للأماكن السياحية التى تقوم الشبهات دوماً لدى الكثيرين على مشروعية مزاولة أغلبها لأنشطتها خصوصاً الليلية منها !! خصوصاً فى ظل حكومة ترفع شعار الإصلاح المنبثق عن الدين !! سيؤدى القرار لانتعاش تجارة الباعة الجائلين التى لا تخضع للضرائب على حساب الأنشطة المرخصة وهو ما سيغضب دون شك أصحاب هذه الأنشطة ناهيك عن خسائر الدولة نتيجة هذه الأنشطة التجارية التى لا تخضع للمحاسبة الضريبية. وأرجو أن لا يتخيل أحدهم أن الجهاز الأمنى المهترئ حالياً والذى ما يزال عاجزاً عن القيام المهمة الأساسية له وهى حفظ الأمن سيكون قادراً على مكافحتهم !! خصوصاً أنه رغم أنهم لا يخضعون للمحاسبة الضريبية إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال استخدام القوة المفرطة فى التعامل معهم، لأن نشاطهم فى النهاية يظل مشروعاً لكسب لقمة العيش فى ظل عجز الدولة عن توفير الحلول التى تكفل لهم لقمة العيش الكريمة. ومع كل ذلك سيشكل القرار نوعاً من الصدمة الاجتماعية الحادة للمجتمع كله تجبره على تغيير أنظمته بشكل فورى وغير منظم دون وجود مردود واضح سريع وملموس يدفع أفراده لتقبل هذه الصدمة واحتمالها. ويمكنك الآن أيضاً أن تتخيل حجم الخسائر التى سيتكبدها الناتج والاقتصاد القومى نتيجة لكل العوامل السابقة. إن مثل هذه الآثار تدفعنا لرفض القرار والدعوة للبحث عن البدائل التى تحقق الآثار الإيجابية التى كانت ترجى منه وتقلص الآثار الكارثية الناتجة عنه ومن هذه البدائل على سبيل المثال لا الحصر: توفير استهلاك الطاقة عن طريق تغيير إمضاءات الشوارع إلى المصابيح الموفرة للطاقة وتشديد الرقابة على عمل المسئولين عن إغلاق هذه الإضاءة أثناء النهار. وضع سياسة توعية متكاملة للأفراد والمؤسسات بالمشكلة وأسباب الأزمة وأهمية الترشيد فى الاستهلاك ودفعهم بالتى هى أحسن لتغيير السلوكيات السلبية المتمثلة فى الإسراف غير المبرر فى استهلاكها مع لفت النظر دوماً للأساليب البديلة التى يمكن للمواطنين اعتمادها لتحقيق مصالحهم مع توفير قدر أكبر من الطاقة.. إن هذه السياسة يجب أن تشمل حملات توعية مستمرة من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية ودور العبادة ولا يغنى فيها بحال من الأحوال مجرد تصريح يطلقه المسئول يدعو الناس فيه لارتداء الملابس القطنية مثلاً. البدء بسياسة تدريجية كاملة تستمر ما بين خمس إلى عشر سنوات لتحقيق انتقال تدريجى سلس وناعم نحو التبكير فى مواعيد العمل وفتح المنشآت التجارية وإغلاقها بحيث تعطى للمجتمع فرصة كافية للتكيف مع الفكرة. وربما كان الأهم من كل ذلك وجود سياسة واضحة شاملة لتحقيق التغيير الاجتماعى والاقتصادى الذى يزيل عوائق من نوعية البطالة والأمن والمرور قبل أن نطالب المجتمع بتحمل صدمات اجتماعية مماثلة لدعم ميزانية الدولة فى الوقت الذى ما تزال أنهار الفساد وإهدار المال العام جلية للعيان. وأخيراً يدفعنى ضميرى إلى أن أحذر بوضوح أن مثل هذا القرار قد يكون فعلاً شرارة تطلق اضطرابات اجتماعية واسعة سيستغلها من يستغلها لتحقيق مصالحه وسيضع الدولة فى مواجهة مباشرة مع المواطنين قد لا تحمد عقباها فى هذه المرة وكما قال المثل العامى "مش كل مرة تسلم الجرة".