يرسم الروائى المصرى محمود الوردانى فى روايته الجديدة "بيت النار" ما يشبه الجدارية لتحولات القاهرة منذ مطلع الستينيات حتى نهاية السبعينيات من خلال رحلة تلميذ صغير يتيم يتحمل مسئولية أسرة يضطرها الفقر للتنقل بين أحياء العاصمة المصرية. و"بيت النار" هو محل الكواء حيث عمل مصطفى صبى مكوجى فى صيف عام 1964 وكان بيت النار فى حى شعبى هو "بولاق أبو العلا" الذى يفصله نهر النيل عن حى الزمالك الأرستقراطى. وعبر تتبع الأعمال الصغيرة والمهن المتواضعة التى عمل فيها مصطفى ليساعد أخته منى وأمه قمر يرسم الوردانى جدارية اجتماعية سياسية لمصر بما فى ذلك التحولات المعمارية والنفسية للقاهرة التى تتوسع بإضافة أحياء جديدة لتصير وحشا أو متاهة. ولكن الحس الفطرى لهذه الأسرة الفقيرة التى تقيم فى غرفة داخل شقة بإحدى الحارات لا يمنعها أن تستمتع بالحياة حين زادت أجرة مصطفى وأصبحت خمسة قروش، فذهبت إلى سينما شبرا بالاس لمشاهدة فيلمين هما الأمريكى (لص بغداد) والمصرى (الباب المفتوح) حيث "أشرق وجه قمر وأضاء بمئات النجوم الصغيرة ففاتن حمامة (بطلة الفيلم) كانت تطرحنا جميعا أرضا بمجرد ظهورها على الشاشة." والرواية التى أصدرتها (دار ميريت) فى القاهرة تقع فى 350 صفحة متوسطة القطع وتكمل جوانب من هموم اجتماعية وسياسية للمؤلف فى روايات سابقة أبرزها "نوبة رجوع". ولكن المؤلف يحنو على أبطاله وقرائه بسرد يتسم بالعذوبة على الرغم من أجواء الفقر الخانقة وقسوة الحياة إذ "اكتملت الجملة الأدبية التى عمل عليها محمود الوردانى بأمانة ووعى لسنوات طويلة امتلك عالمه الأدبى، وصاغ مادته الإنسانية فى سهولة وبساطة حتى وصل إلى عذوبة رائقة تلمس العقل والقلب معا" على حد قول الروائى المصرى البارز علاء الديب فى وصفه للرواية. وتبدأ الرواية بفصل عنوانه "صيف الثلج" يرصد أولى خطوات مصطفى فى عام 1962 وهو يتحمل مسؤولية الأسرة ويعمل مساعدا لبائع الثلج الذى يوزعه على البيوت والمحال ويتيح له العمل معرفة عالم أوسع من حدود الحى الشعبى فيرى صورا للرئيس آنذاك جمال عبد الناصر ويتابع جموعا تهتف وراء شاب نحيل محمول على الأعناق. "دى جميلة مجاهدة-من الجزاير-الشعب الثاير-بيقول يا جمال-ابعت رجال-ورجال أحرار-يحموا الجزاير-الشعب الثاير" فى إشارة إلى المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد التى صارت رمزا للثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسى. وفى العام التالى يلتحق مصطفى بالعمل فى مطبعة فى وسط القاهرة بالقرب من قصر عابدين "قصر الملك فاروق" الذى يرى للمرة الأولى سوره ويشعر بالضآلة. ولا تفارق مصطفى رائحة مصباح الكيروسين حتى وهو فى المدرسة أما أمه فتضطر لبيع الأثاث قطعة قطعة. ومع تعقد الظروف المادية وبيع أمه للدولاب ثم "دبلة زواجها من أبيه" يبدأ مصطفى عمله مقابل 35 قرشا كل أسبوع فى (بيت النار) الذى يتعلم فيه الدقة إذ ينصحه المكوجى بأن يأتى بالمكواة "من بيت النار وتقربها من خدك عشان تقيس النار. لازم تتعلم تحس النار. إذا كانت المكواة سخنة على الشغل هاتحرقه.. وإذا كانت باردة على الشغل مش هاتكويه.. لازم تحس النار" كما يطلعه على عالم مختلف هو حى الزمالك. وفى هذا المحل يعرف أن "أسهل الشغل هو البيجامات الرجالى وقمصان النوم الحريمي.. عليك فقط أن تحس النار. تقرب المكواة من خدك" ثم هنأه المكوجى بعد نجاحه فى الاختبار وأصبح كواء محترفا وقال له فيما يشبه التعميد "اسم مار جرجس عليك والله. كده أقدر أستريح." ولكن مصطفى يعرف عوالم أكثر خشونة وقسوة منها أقسام الشرطة ضمن حملة للقبض على البائعين الصغار "السريحة" ويتلقى الضرب والسباب. وتحول السباب إلى سخرية منه فى مرحلة تالية حين عمل محصلا ومراجعا ومندوب إعلانات فى مجلة صوت العروبة، وتأكد له حجم الانتهازية فى الحصول على إعلانات. ولعل قسوة الخبرة أهلت مصطفى للعمل السرى فى تنظيمات شيوعية فى السبعينيات بهدف مناهضة التحولات السياسية لرئيس تلك الحقبة أنور السادات الذى سمح بظهور الجماعات الإسلامية فى الجامعات، وأصبح مصطفى مناضلا مطاردا بعد هروبه من الاعتقال عقب انتفاضة 18 و19 يناير كانون الثانى 1977 والتى أطلق عليها السادات "انتفاضة الحرامية". وفى الفصول الأخيرة يستبدل مصطفى بمعاناة الفقر أسئلة وجودية عن تغيرات وأحداث منها العام كاختطاف "الشيخ الذهبى وزير الأوقاف" وقتله بعد فشل المفاوضات بين الخاطفين المتشددين والمسئولين ومنها الخاص مثل زواج أخته منى الطالبة الجامعية من شاب ذى توجه متشدد وسفرها معه إلى السعودية ثم عودته سمينا له لحية سوداء ضخمة وشراؤه أرضا ليبنى بيتا فى حى جديد سرعان ما أصبح من عشوائيات القاهرة التى يرصد الوردانى نموها كعشب شيطانى. ويعلق بطل الرواية على تآكل الحزام الزراعى حول القاهرة وتحوله إلى هياكل أسمنتية "هذه قاهرة أخرى لا أعرفها".