هذا هو عنوان الرواية الأخيرة لمحمود الورداني الذي أضعه في الصدارة ضمن كتاب رواية جيل السبعينيات. وقد سبقت هذه الرواية روايات متميزة, صنعت لصاحبها مكانة مرموقة مثل نوبة رجوع(1990) ورائحة البرتقال(1992) والروض العاطر(1998) وأوان القطاف(2003) وموسيقي المول(2005) وعدد من مجموعات القصة القصيرة التي تتضافر مع الروايات لتدفع بصاحبها إلي الصف الأول من الجيل السبعيني. وتأتي رواية بيت النار(2011) بعد ثورة يناير عن دار نشر ميريت التي يظل لها دورها الفاعل في حضور الاتجاهات الجديدة في الرواية المصرية المعاصرة. يمكن تصنيف رواية الورداني ضمن دائرة رواية التكوين وهو اصطلاح أشاعة النقاد الألمان ابتداء, قاصدين به الروايات التي تتحدث عن المسيرة التي ينتقل بها البطل( والبطلة أحيانا أقل) من الطفولة إلي الرجولة, أو من السذاجة إلي النضج, خصوصا وقائع تقلب أحوال هذا البطل في المدي الزمني المتتابع الذي ينتهي بانتهاء تكون البطل أو اكتمال تكونه الذي جعله علي ما هو عليه, ومن خلال تفاعله مع الأوضاع الخاصة والعامة في الواقع المحيط. والمثال الأشهر لهذا النوع في الرواية الفرنسية التربية العاطفية لفلوبير. وقد ترجمت إلي العربية منذ سنوات عديدة. وفي الإنجليزية مول فلاندرز لدانييل ديفو وإما لجين أوستن وديفيد كوبرفيلد لشارلز ديكنز وأخيرا صورة الفنان شابا لجيمس جويس وغيرها. ومن الممكن أن تتداخل رواية التكوين مع رواية السيرة الذاتية, كما يحدث في رواية الورداني التي تتوازي مسيرة أحداثها مع مسيرة حياته, ابتداء من البطل الذي نراه للمرة الأولي في الرواية وهو في الثانية عشرة من عمره, في الفصل الأول صيف الثلج- شبرا, مايو1962 فنعرف أن البطل مولود سنة1950 وهي سنة الميلاد الفعلي لمحمود الورداني كاتب الرواية. وهو الأمر الذي يتكرر في غير حالة, منها الوظائف العديدة التي جمعت بين المؤلف المعلن والبطل في الرواية. ويؤكد ذلك اقترابنا من حدود رواية السيرة الذاتية. بالمعني الذي يصل رواية إبراهيم الكاتب بصاحبها إبراهيم المازني, وسارة بالممثلة الشهيرة التي أحبها عباس محمود العقاد فعليا في شبابه, فضلا عن شخصية محسن التي توازي توفيق الحكيم في الصبا الأول والزمن الباريسي ما بين عودة الروح وعصفور من الشرق. والأمثلة كثيرة علي هذا النوع من الروايات. لكن هذه الموازاة بين البطل الروائي والمؤلف الفعلي لا تعني التطابق في كل الأحوال, وإلا كنا إزاء نوع أدبي آخر كالسيرة الذاتية, فالتوازي موجود بالمعني الرمزي الذي لا ينتقص من استقلال الرواية فنيا ودلاليا. وتبدأ الموازاة الرمزية في حالة رواية محمود الورداني من الدلالات المتضمنة في عنوانها, فبيت النار هو المصدر الذي يسهم في إنضاج الأشياء أو إكمال هيئتها. وإذا كانت النار تؤدي رمزيا معاني المعرفة والإنضاج واكتمال التكوين, في علاقة البطل بواقعه, أو حضوره الفاعل في الوجود, فإن بيت النار له- فضلا عن معانيه الرمزية- معني حرفي, يرجع إلي مدخل الجزء الذي توجد فيه النار المشتعلة تحت السطح الذي توضع عليه أقراص العجين في الفرن البلدي, وله معني آخر يشير في الرواية إلي الجزء الذي توجد فيه النار التي توضع عليها المكواة, كي تكون ساخنة بالدرجة التي تتناسب ونوع الملابس المطلوب كيها. وهو المعني المقصود فعليا في رواية الورداني الذي عمل كبطل روايته كواء في فترة من صباه. وهو المعني المقصود فعليا في الفصل الخاص الذي يشير إلي سنة1964 في مسيرة بطل الرواية, لكنه معني يتحول من حيث هو عنوان إلي وقائع الحياة الجمر التي عاناها البطل كي يكتمل نضجه, ويصل إلي ما وصل إليه في النهاية, نتيجة وقائع حياته التي تنضج الكينونة الذاتية للبطل الذي نري كل شيء من خلال عينيه وندرك كل شيء من خلال منظوره, ابتداء من نقطة البداية في شبرا, مايو1962 إلي نقطة النهاية بعد الخروج من أحد السجون الساداتية بعد ثورة الخبز في يناير1977. ويعني ذلك أن السرد الروائي يمتد ما بين سنة1962 وسنة1977, بما يوازي خمسة عشر عاما من السنوات الجمر أو السنوات التي تبدو للبطل- في استرجاعها- كأنها حياة في بيت النار الذي يشير, في تجاوب سياقات الرواية- إلي سنوات من المعاناة في واقع لا يفارق شروط الضرورة التي أفضت إلي نوع من النهاية المحبطة التي لا يفارقها القمع. هكذا, يسترجع البطل حياته والمهن التي اضطر إليها في مسار متعاقب:1- بائع ثلج في الثانية عشرة من عمره, يصعد السلالم إلي الشقق العالية ليضع الثلج فوق السربنتينات, أو يجر عربته الخشبية في شوارع وحواري شبرا ليوصل أنصاف وأرباع ألواح الثلج إلي المقاهي وثلاجات البوابين.2- صبي مطبعة في أرض شريف: يشتري طلبات الأسطوات خارج المطبعة, وينفذ طلباتهم داخلها.3- صبي كواء عند عم عريان في بولاق أبو العلا, يحمل الشغل إلي زبائن الزمالك, ويغدو, فضلا عن ذلك, كواء مبتدئا.4- كاشير في محل عصير القصب أمام قهوة المالية في ميدان لاظوغلي.5- صحفي مبتدئ في مجلة صوت العروبة في شارع بورسعيد.6- مجند مؤهلات يصرف إعانات وضع ووفاة, وحامل للشهداء من المستشفيات للمقابر.7- محترف سري في تنظيم شيوعي, بدأ تفككه وتحلله قبل أن يرحل السادات عن الدنيا, وبعد أن تحالف السادات مع التيارات الإسلامية, وساعدها كما ساعدته علي الخلاص من المقاومة الناصرية القومية واليسارية بكل أطيافها.8- مسجون في أحد السجون الساداتية في النهاية التي انفصل فيها عن حبيبته في زمن لا مجال لبقاء الحب فيه, خصوصا بعد رحيل عالم انقلب عليه عالم مضاد كانت له الغلبة. هذه محطات ثمانية يحركنا البطل الراوي عبرها, متنقلا في الزمان والمكان, ولكن دون أن يتغير الوضع الطبقي أو الوعي الهامشي المقموع للبطل الذي يحاول أن يحتمي بتنظيم سري, يسعي من خلاله إلي تغيير العالم. ولكن المتغيرات السياسية في الزمن الساداتي تعصف به وبالتنظيم علي السواء. وخلال رحلة الأعوام الخمسة عشر يتغير وعي البطل- مصطفي- من الطفولة إلي الرجولة, عبر سنوات المراهقة, فينتقل من الجهل بالواقع الطبقي إلي الوعي به ومحاولة تغييره والانتقال به من شروط الضرورة إلي آفاق الحرية والعدالة الاجتماعية التي لم تتحقق إلي اليوم, ويقاوم البطل إلي أن يتزايد شعوره بالقمع السياسي الذي تزايد مع تحالف السادات مع أعداء الناصرية وحلفاء الولاياتالمتحدة وإسلام النفط, الأمر الذي يؤدي إلي انطفاء الوهج الداخلي تدريجيا كالمكواة التي تفقد سخونتها بعد تباعدها عن بيت النار, فتأتي النهاية ببرودة الشعور القاتل بالانكسار الذي يعيدنا إلي دلالة ألواح الثلج التي بدأت بها الرواية. وما بين البداية والنهاية أحلام لا تتحقق ورغبات مجهضة, ومحاولات حب يفشل, وانتماء سياسي يساري تفرض عليه نهايات حزينة أسهم أصحابه في صنعها. ويشعر القارئ, في النهاية, بأن الخاتمة الحزينة للرواية تبدو كما لو كانت موازاة رمزية الدلالة, تصل ما بين الانكسار اليساري في الزمن الروائي والانكسار اليساري المدني, فضلا عن التشرذم الذي انحرف بمسار ثورة25 يناير. وها هي مصر الحزينة نفسها, مثل بطل بيت النار تتشرذم قواها الليبرالية واليسارية, فلا يبقي في المشهد سوي تيارات الإسلام التي تضخمت, صاعدة بشهوة السلطة لتحكم كل شيء, مقابل قوة ضاربة لا تكف عن تذكيرنا بالاستبداد السياسي الذي كان. تري هل فرض واقعنا الحالي نفسه علي مسار بيت النار فانتهي بالرواية إلي ما انتهت إليه؟ الأمر ممكن. المزيد من مقالات جابر عصفور