محمود الوردانى "لأول مرة لا أجد عندي نفس الانحيازات التي كانت عندي سابقاً، هل هذه هي حكمة الشيوخ". هكذا تساءل محمود الورداني في حوارنا معه، تعليقاً علي التغير الذي لحق به بعد الثورة، التغير لم يلحق به هو فقط، وإنما بكتابته أيضاً. أصدر مؤخراً روايته "بيت النار" عن دار ميريت. الرواية تتتبع مصطفي منذ أن كان طفلاً، والأعمال التي التحق بها هي البطل الحقيقي في العمل، بدءاً من تقطيع الثلج وبيعه حتي عمله بائع عصير، ومكوجيا ورقاقاً، وانتهاء بما قام به من مهمات أثناء فترة تجنيده ثم في التنظيم السري اليساري. الرواية تبدأ من الخمسينيات وتنتهي في الثمانينيات تقريباً. يتتبع الكاتب تفاصيل الحياة في العقود المختلفة بمهارة كبيرة. يبذل جهداً مضاعفاً علي الذاكرة، لاستحضار تلك التفاصيل. الجديد في الرواية بالنسبة لكتابة الورداني، أنه طول الوقت كان يبدو مهموماً بكتابة "ملتزمة" إن كان ثمة معني ل"الكتابة الملتزمة"، مستعيناً بتقنيات غرائبية، - إن كان ثمة معني أيضاً للتقنيات الغرائبية- ولكنه في هذه الرواية لا يكتب انتماءاته السياسية، كما لا يحاول البحث عن تقنيات مجاوزة للكتابة التقليدية. فجأة، وأنت تصل إلي منتصف الرواية، تكتشف أن الخيط الذي يجمع جميع الأحداث هو "شغل" البطل. يدافع الورداني عن نفسه من تهمة "الالتزام الأدبي السابق" فيقول: "أنا لا تجذبني فكرة الكتابة الملتزمة أو غير الملتزمة، بدليل أنني أعجب بأعمال من أجيال جديدة تبتعد عن فكرة الالتزام الضيق. الرواية كان اسمها "شغل" أصلاً، ولكنني عندما اقترحت العنوان علي أصدقائي قالوا أنه يذكرهم بعناوين الروايات السوفييتية، وبالتالي استبعدته. كنت أريد متابعة تيمة الشغل، أريد القبض عليها من بداية الرواية، لو تلاحظ أنه في نهاية الرواية ذكرت أعمالاً كان البطل يتمني أن يعمل بها". هذه الفكرة هي التي قادت الورداني للكتابة بهذا الشكل. هو يؤمن بأن الكتابة تقوده لا العكس، يكرر هذه الفكرة في النقاش عدة مرات. - ماذا تعني بأن الشغل كان القيمة التي تريد تتبعها؟ - أعني أن الشغل بالنسبة للبطل كان حالة تتجدد علي مدي حياته باشكال مختلفة، وتقريبا تقوم عليها أحلامه وأوهامه وصراعاته، أنا اكتشف هذا معك الآن، ثم يعيش فيما يشبه النوستالجيا بالنسبة لأشغاله القديمة. تلاحظ أنه ليس هناك عنف في الشغل. البطل يشتغل فعلاً. بالرغم من إحساسه بالظلم وعدم السعادة، لكن ليس هناك فكرة الصراع بين العامل ورب العمل علي الطريقة الماركسية مثلا. أنا اعمل علي الشغل الذي أعرفه، وفي نفس الوقت، هذا لم يكن شيئا سعيدا. أثناء الكتابة كنت أعيد اكتشاف مفهوم "الشغل". رأيت أنه حتي العمل في الجيش كان شغلاً، وفي التنظيم السري. ماهيات الشغل المختلفة هي التي كانت تعنيني، وهي التي قادتني للكتابة بهذه الطريقة. لم أكن أريد كتابة رواية مقاتلة أو ملتزمة، وربما هذا ما جعل الرواية تصبح أكثر سلاسة - النوستالجيا التي تحدثت عنها، هل هي للأشغال القديمة أم للزمن القديم؟ - الاثنان. الزمن والشغل. هذه النوستالجيا "ربنا نجاني منها" في الأعمال السابقة، وتورطت فيها هنا. السؤال الذي لا يمكن لأي قارئ أن يمنع نفسه من طرحه، هو "هل عمل الكاتب هذه الأعمال بنفسه"، فالأعمال المختلفة تبدو دقيقة ونتاجاً لخبرة شخصية، مثل طريقة تقطيع الثلج وحتي طريقة كي الملابس المختلفة. يرد بالنفي، يتشرف كما يقول لو كان قد عمل بها، ولكن هذا لم يحدث. هذه ليست خبرات كاتب وانما خبرات حياة عاشهاالكاتب، كما يقول. ويحيلني إلي كتابة إبراهيم أصلان، في "مالك الحزين" و"شيء من هذا القبيل": "الشيخ حسني كان شخصية معروفة في الكيت كات، والهرم أيضاً (يضحك) لدرجة أن ابنة الهرم بعد عرض فيلم "الكيت كات" ذهبت لشركة انتاج للمطالبة بحقوقها عن استغلال شخصية والدها في الفيلم. ما أريد قوله هو إن الكتابة لا يمكنها الإعتماد كلياً علي الواقع. هذا محض بلاهة. ما حدث أنني كنت قريباً من أشغال كثيرة، ومن شخصيات تعمل بمهن مختلفة. يكون في رأسك أن تكتب الحكاية بشكل ما، ولكن تتم كتابتها بشكل مختلف، وهذا لأنك تخلص للإنصات لشخصياتك. الشخصيات هنا كانت قريبة مني جداً. كانت لدي صلة قريبة بصاحب ثلاجة في شبرا مثلاً في شارع متفرع من الترعة البولاقية. "شغل" لم يكن هو العنوان الوحيد المقترح للرواية، بعد أن صرف الأصدقاء أنظاره عنه فكر في عنوان آخر "قمر له ليالي"، علي اسم أم البطل "قمر"، ولكنه استبعده أيضاً، في المقابل فعنوان "بيت النار" كان مستوحي من عمل البطل في مهنة المكوجي، يشرح لي العنوان: "يمكن أن تكون الرواية كلها بيت نار. فهذه الاشغال لم تكن نزهات، وانما دنيا من النار". أقول له إن الرواية تبدو ك"مصهر" فعلاً، فيضحك ويقول لي إنه ضد الكلام الكبير، فالفكرة أبسط من هذا. الفصل الذي يتحدث عن العمل السري يبدو ثرياً بتفاصيله، فكرة كيفية الإفلات من المراقبة الأمنية، تقسيم المهن بداخل التنظيمات السرية اليسارية، ولكن ألا يمكن لهذا أن يكون أمراً محفوفاً بالمخاطر، إفشاء مثلاً لأسرار الرفاق القدامي؟ يبتسم ويقول إن الرواية لو كانت قد كُتبت قبل حل التنظيمات السرية كان سيخاف بالفعل. ليس لأن هذه جماعات كهنوتية ولكن لاعتبارت أمنية. وقد تؤذي أصحابها: "ولكن الآن، فمن حقي أن أنظر إلي ما حدث. ومن ناحية أخري، فما حدث في هذا الفصل أو ذاك بعضه واقع وبعضه خيال، تفاصيل بيت الحب الذي سكنا أمامه وكان مخصصاً لممارسة الجنس هو بيت حقيقي، وعشت فيه مع زميل لي، والفصل الأخير المكتوب الخط المائل الذي يصف تفاصيل السجن كلها تفاصيل عرفتها أثناء فترات اعتقالي. في الفصل الخاص بالعمل السري بالتحديد لم أكن خائفا من أحد عندما تكلمت عن تفاصيل العمل. أردت تقديم هذا الجانب من الحياة المصرية، كنا معزولين تماماً، لم نكن نعرف ماذا يحدث من حولنا. كنا نعمل في التنظيم تحت الأرض. وبدأ الانهيار بمجيء السادات، الذي كان وجهاً قبيحا تماماً بالنسبة لي ويحمل احتقاراً لكل ما هو طيب وعادل، وظهوره أدي لكل ما حدث. سواء في هذه الرواية، أو في "أوان القطاف" مثلاً، يصف الورداني المد الديني في السبعينيات والثمانينيات عبر أسماء العديد من المحلات ذات الصبغة الإسلامية، "النور"، "الهدي" الإسراء"، وغيرها، ولكنه يصفه كدليل قاطع علي قبح وانحطاط الحياة الآن. أسأله إن لم يكن قد فكر في الدخول لهذا العالم "المتأسلم" وتأمل جمالياته وصراعاته من داخله، هل الإدانة وحدها تكفي للكتابة الروائية؟ لم أفكر في هذا من قبل، وقد يكون كلامك صحيحاً، قد أكون أنا منحازاً انحيازاً لا يحتمله الفن. الفن لا يجوز أن يقبل أو يرفض، وإنما أن يكشف. ولكنني مثلاً استحضرت تفاصيل حياة مني أخت البطل - وزوجها في مصر وحتي سفرهما للسعودية والتحولات التي طرأت عليهما. هذا لم يأت خصيصاً، وإنما فُرض عليّ فرضاً من خلال الرواية. ولكن حتي في هذه النقطة لم يكن حاضراً سوي نبرة الإدانة لهذا التحول؟ طبعاً، الرواية كلها مكتوبة بضمير الأنا، وبالتالي يحتمل الموضوع أن تكون هناك وجهة نظر شخصية في الموضوع. (يفكر قليلاً) أنا أشعر بالعجز عن الاقتراب من هذه المنطقة، والآن فقط أستطيع القول لك أنني لا أدينها بقدر ما أريد فهمها، بالطبع أنا ضد استخدام الدين في السياسة، ولكنني أريد الفهم. أريد فهم المشاكل الجديدة في الواقع المصري، لأول مرة لا أستطيع أن أكون بنفس الانحياز الذي كنت عليه في البداية. هل هذه هي حكمة الشيوخ؟ لا أعرف بالضبط. هذا حدث لكل الناس بعد الثورة. صحيح. لأول مرة تكون للحقيقة أكثر من وجه. أجمل ما فعلته الثورة أنها فتحتنا علي جميع الاحتمالات، علي فكرة أن الإدانة وحدها لا تكفي. لم تعد هناك أحكام قاطعة. الكتابة الجديدة سوف تقوم بدور مهم في هذا الموضوع. الثورة جعلتني أري ما حولي جيداً. الروح نفسها كانت فيها خلل. الثورة "عدلتني"، ليس فقط بسبب إسقاط النظام وحده، ولكنها جعلتني أري المجتمع بجميع تناقضاته. ظاهرة الأغاني الشعبية الحديثة، أو ظاهرة الألتراس مثلاً، (يضحك) ظاهرة خارقة للطبيعة يا عم الحاج. في محاولة الراوي للبحث عن مكان جديد يصلح للعمل الحزبي يزور عين شمس وعزبة النخل والمرج والمعتمدية وكرداسة وأوسيم وشبر الخيمة والوراق. يبدو مصدوماً من نمط جديد من العمارة القاهرية: "بيوت قصيرة كومت فوق بعضها البعض، تبتلع المناطق التي كانت زراعية، وبعضها مجرد هياكل وعواميد أسمنتية لم تتحول بعد إلي بيوت، تصنع عشرات الحواري والعطفات التي تشبه المتاهة، بينما تنتشر بحيرات المجاري وجيوش الذباب في كل مكان، والعيال والنساء والرجال قاعدون أمام أبواب بيوتهم يزعقون ويشتبكون في معارك صغيرة طول الوقت"، ويختتم هذه الفقرة بجملته التي تتكرر كثيرا: "هذه قاهرة أخري لا أعرفها". كما يقول، فهو يعني هنا رقعة من الأراضي الزراعية التي تحولت إلي جزء من جسم المدينة، حدث تجريف للتربة وتم بناء عمارات عليها لأكثر من عشرين طابقاً: "هذا أنا لا أدينه، ولكنني أقول أن هذا النمط من الحياة لا يقصد الفقر، شبرا مثلا فقيرة ولكن الحياة فيها أكثر إنسانية هذا النمط الجديد من العشوائية جعل الناس تفقد إنسانيتها وتفقد المعرفة بمحيطها". في الرواية ثمة فصل عن الخدمة العسكرية للبطل، استعان الورداني بمشاهد من روايته السابقة "نوبة رجوع"، وأعاد كتابتها مضيفاً تفاصيل جديدة. البطل يخدم في القاهرة أثناء حرب 73، وبالتالي فهو لم يشارك في الحرب بينما تكون مهمته هي استقبال الشهداء فحسب. يقول إن هذه هي تجربته الشخصية فعلاً. وربما يكون أكثر ما يلفت النظر هنا هو الإجراءات البيروقراطية التي كانت تصاحب عملية استقبال الشهداء. فجأة في الرواية يتحول الشهيد إلي مجموعة من الأوراق وأختام وتوقيعات وتذمر بسبب عدم اكتمال الإجراءات. هكذا يسلب الورداني القدسية عن الموت والحرب ويواجهنا بالواقع الحقيقي لمن كان قريباً بالفعل من المعركة. نسي الورداني أشياء من هذه التجربة وتذكر أشياء، ولكن ماأفاده أكثر هو الفصول المكتوبة في "نوبة الرجوع"، والتي عاد إليها لإعادة الكتابة. أسأله كيف يري الفارق بين كتابة هذه التفاصيل وإعادة كتابتها الآن فيقول: "كانت شيئاً مختلفاً، أكثر كآبة وانقباضاً. وليست فيها مسحة الطرافة التي أعتقدت أنها تسللت إلي هذا العمل. بالإضافة لذلك، فهناك مشاهد كثيرة كثيرة في "نوبة رجوع" استبعدتها، هي ببساطة لا تتواءم مع تيمة الشغل التي أردت التركيز عليها". يبتسم ويقول: "قبل هذه الرواية لم أكن أستطيع التخلص من الجهامة، وهذا كان يعطل اللغة بعض الشيء. أعتقد أنني في هذه الرواية نجحت في التخلص من بعض هذه الجهامة، وبدون تعمد". يحكي الورداني تاريخ كتابته للرواية. كتبها من يوليو 2009 وحتي مايو 2011. ولكنه كان قد انتهي من المخطوطة الأصلية لها قبل الثورة. خطر له بالطبع تغيير بعض التفاصيل بعد الثورة، ولكنه لم يستجب لهذا الخاطر، استطاع عزل نفسه تماماً. لدرجة إنه أرجأ فكرة مراجعة الرواية لأوقات طويلة حي تهدأ الأحداث ويتمكن من الكتابة.