لا يختلف أحد فى مصر حول قيمة وأهمية د. محمد البرادعى، فهو قامة مصرية عالية وشخصية دولية مرموقة، ولعب دورًا مهمّا فى التمهيد لثورة 25 يناير 2011. ومازلت أذكر حديثه القوى والواضح الذى أجراه معه الزميل جميل مطر فى ديسمبر 2009، وقال فيه إن «القيمة الأساسية التى تحكم مصر الآن السلطة والمال، وليست العلم»، وأعلن خلاله أنه «إذا كنا نريد أن نبدأ بداية جديدة وجدية فى مصر، يجب أن نتوقف عن الحديث عن «تعديلات» لإزالة عوائق قانونية ودستورية فقط.. التغيير المطلوب يقوم على صياغة دستور جديد، فالدستور الحالى - دستور 1971 - يقوم على وجود سلطة واحدة مهيمنة بشكل لم أشاهده فى أى دولة أخرى، مطالبة البرادعى بإنهاء حالة الطوارئ ورقابة القضاء الكاملة على العملية الانتخابية ورقابة منظمات المجتمع المدنى المحلية والدولية عليها، وحق الترشيح للمصريين فى الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية وفقًا للاتفاقات الدولية للحقوق السياسية والمدنية التى وضعتها مصر، وقصر مدة الرئاسة على فترتين متتاليتين فقط.. إلخ، وفى شجاعة ليست غريبة عليه أعلن رفضه للمادة الثانية للدستور، مؤكدًا أن غالبية المصريين يدينون بالإسلام، ولكن الدولة كائن معنوى ليس له دين، ومع ذلك لم أكن من المؤيدين لانتخاب د. محمد البرادعى لرئاسة الجمهورية لثلاثة أسباب.. الأول: الإعلان عن نيته للترشح لانتخابات الرئاسة كمرشح مستقل، مثله فى ذلك مثل عمرو موسى وهشام البسطاويسى وآخرين، وظاهرة المستقلين فى الحياة السياسية تكاد تكون ظاهرة مصرية، بلغت ذروتها فى الترشح لانتخابات مجلس الشعب فى أعوام 1995 و2000 و2005 وفى نتائجها، فالبلاد الديمقراطية تكاد لا تعرف ظاهرة المستقلين فى تشكيل مؤسساتها السياسية، وتعد الأحزاب السياسية فى هذه البلاد هى الإطار الطبيعى لممارسة المواطنين للعمل السياسى ومنها تتشكل المجالس التشريعية والحكومات ورئاسة الدولة، لذلك نجد أن رؤساء الدول وأعضاء البرلمان والحكومة فى البلاد الديمقراطية قيادات وأعضاء فى الأحزاب السياسية. الثانى: وهو مرتبط بالسبب الأول هو موقفه من الأحزاب السياسية وتجاهله لها فى تحركاته السياسية واتصالاته، بل وتعاليه عليها، والعمل مع شخصيات غير منتمية للأحزاب السياسية، وبعضها معاد للأحزاب والحزبية عامة. الثالث: عدم طرحه لبرنامج اقتصادى واجتماعى وسياسى يلتزم بتنفيذه فى حالة فوزه فى انتخابات الرئاسة. ورغم ذلك لا يمكن تجاهل قيمة الموقف المهم الذى أعلنه أخيرًا بالعدول عن نيته الترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية التى يفتح باب الترشح لها فى أبريل القادم، وحدد أسبابًا للعدول عن الترشح، بإجراء انتخابات الرئاسة قبل صدور دستور يضبط العلاقة بين السلطات ويحمى الحريات «أو فى ظل دستور تلفق مواده فى أسابيع قليلة»، واتهامه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالانفراد فى صنع القرارات وبأسلوب ينم عن تخبط وعشوائية فى الرؤية، «مما فاقم الانقسامات بين فئات المجتمع» واتباع سياسة أمنية قمعية تتسم بالعنف والتحرش والقتل، وعلى إحالة الثوار لمحاكمات عسكرية.. «كل هذا فى إطار حالة الطوارئ الفاقدة للمشروعية وغياب غير مفهوم للأمن وإدارة سيئة للاقتصاد، بالإضافة لعدم اتخاذ خطوات حازمة لتطهير مؤسسات الدولة، خاصة القضاء والإعلام، من فساد النظام السابق، لينتهى د. البرادعى إلى أن «النظام السابق لم يسقط». ولا شك أن هذا الموقف القوى من د. محمد البرادعى، بكل ثقله ونفوذه السياسى وقيمته الدولية، يمثل إضافة نوعية لمواقف الأحزاب والقوى السياسية - اليسارية خاصة - وائتلافات الشباب والحركات الاجتماعية التى تخوض نضالاً متواصلاً لإسقاط النظام القديم وتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.