تناولت فى المقال السابق من تلك السلسلة (المصرى اليوم 1/11) موقف الحزب الوطنى من قضية مستقبل النظام السياسى بعد الرئيس مبارك، والجدال الدائر حولها، وكانت نيتى هى أن أتناول بعدها تحديدًا مسألة الترشيح لرئاسة الجمهورية فى مصر، ولكننى توقفت، الأسبوع الماضى، للحديث عن استضافة حزب الجبهة الديمقراطية المؤتمر السادس والخمسين للدولية الليبرالية. غير أنه- لحسن الحظ- سبقنى الصديق العزيز د. عبدالمنعم سعيد، وكتب فى أهرام السبت 31/10 مقالا بعنوان «الترشيح لرئاسة الجمهورية» يعكس رأى نخبة «الحزب الوطنى» فى الموضوع، مما يوفر مقدمة ساخنة وسخية لتناول الموضوع. وسوف أبدأ بمحاولة تلخيص ما ذكره د. عبدالمنعم من حجج وأفكار بما يلى: أولاً- إنه على عكس ما يحدث فى «البلاد الناضجة»، وبدلا من أن ينهمك السياسيون فى تداول سياسات الحزب، وتقييمها بالنقد والمراجعة، وتقديم المعلومات وطرح الأسئلة، «فإن المسألة فى مصر تأخذ دائما شكلا آخر، فما هو مطروح على الناس من سياسات (من جانب الحزب الوطنى) لا يكون موضوعا أبدا (للاهتمام والمناقشة الجادة)». ثانيًا- إن الذى طرح على الناس هو موضوعات وقضايا أخرى، أشهرها: من سيكون مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية؟ ثالثًا- إن «من تعب من الحديث فى هذا الموضوع طرح للوطن قائمة طويلة من المرشحين الذين يجرى الادعاء على أنهم يحصلون على توافق قومى». رابعًا- «إذا لم يكن فى هذا ما يكفى، فإنه يمكن وضع كل المرشحين فى مجلس واحد للأمناء، يقوم بدور الوصاية على البلد كله، فيغير دستوره ويعيد تشكيل بناء الدولة (....) ويتجاوز كل المؤسسات والقواعد الدستورية فى ضربة حظ تاريخية». خامسًا- «الغريب فى الموضوع أن الأمر كله يطرح فى شكل من أشكال الوصاية على الحزب الوطنى الديمقراطى، مقررا له ماذا يفعل وما لا ينبغى عليه فعله». سادسا- «إن محاولة فرض الوصاية هذه تأتى من أشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم، أو حركات سياسية لا يتعدى عددها المئات، ينفضون ويجتمعون عند كل حركة وكل تجمع. ولهم كل نصف عام اسم جديد، ولكن الجمع نفسه لا يتغير، ومقالاته وهتافاته وشعاراته لا يأتى عليها جديد». وليس فى نيتى على الإطلاق الدخول فى مساجلة أو مبارزة مع د.عبدالمنعم سعيد، فأنا أتفهم (ولا أقول أبرر) موقفه الحالى، ولكن ذكرت ما قاله من حجج وأطروحات، باعتبارها تلخص بدقة وجهة نظر النخبة أو بتعبير أدق «الشلة» أو «الشلل» المسيطرة فى الحزب الوطنى. فإذا عدنا للتذكير بأن مصر، الآن، (ونحن فى أواخر عام 2009) تقف على أعتاب مرحلة حاسمة فى تطور نظامها السياسى، فى السنوات القليلة القادمة، فلن يكون من الغريب أن يتركز الانتباه وأن تتجه الأبصار نحو منصب «رئيس الجمهورية» بالتحديد. فهذا المنصب- فى النظام الجمهورى السلطوى القائم- يحتل مكانة مركزية، ليس فقط لما يتمتع به من سلطات هائلة، ولكن أيضا لما ينطوى عليه من أهمية رمزية، ليست منبتة الصلة بتراث الفرعونية السياسية الضاربة فى عمق التاريخ المصرى. فى هذا السياق، يكون من المفهوم تماما أن جوهر «القلق» السائد الآن، فى الحياة السياسية المصرية هو- كما سبقت الإشارة إليه أكثر من مرة- أنه لأول مرة منذ عام 1952 لا يعرف المصريون من هو رئيسهم القادم! ومع التسليم بأن المطلوب الآن، لمصر هو «نظام جديد» (أى نظام ديمقراطى كفء وفاعل) وليس مجرد «رئيس جديد»، إلا أن شخصًا ما سوف يحتل منصب «الرئيس» حتى فى ظل مرحلة انتقالية نحو نظام جديد! ولذلك، فإن تجاهل الحزب الوطنى، فى مؤتمره الأخير، هذا القلق المشروع والمنطقى من النخبة المصرية ومن الرأى العام المصرى، هو تجاهل غريب وغير مبرر. لذلك، مما يبعث على الأسى (وعلى السخرية أيضًا!) القول إن السياسيين المصريين لم يتصرفوا كما يحدث فى «البلاد الناضجة!»، ولم يتابعوا المناقشات العميقة لسياسات الحزب الوطنى، وانشغلوا عنها بقضية «مصطنعة»، هى: من سيكون مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية؟! إن المصريين لم يتابعوا مناقشة هذه السياسات (التى جرت بطريقة مسرحية متقنة الإعداد، فى القاعات الفخمة لمركز المؤتمرات، والشاشات العملاقة للمتحاورين الجالسين على مقاعد وثيرة وفقا لتقاليد منتدى دافوس!)، لأنهم فى الواقع يلمسون تلك السياسات فى حياتهم اليومية، فى أطلال المدارس المنهارة للأغلبية الفقيرة، ومدارس اللغات باهظة التكلفة للأقلية المترفة، وفى المستشفيات التى تشكو الإهمال ونقص الموارد وبؤس الأطباء، وفى سكنى الملايين للجحور والقبور، وفى أمية ما يقرب من 30% من المصريين، وفى إنجازات أخرى كثيرة! فإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن الرئيس مبارك (متعه الله بالصحة والعافية) يزيد عمره حاليا على 81 عاما، وقضى فى منصب الرئاسة حتى الآن ثمانية وعشرين عاما، وسوف يكمل فى موعد الانتخابات القادمة ثلاثة وثمانين عاما، فإنه يكون من المنطقى- بل من الواجب، ومن قبل الإحساس بالمسؤولية الوطنية- أن يتساءل السياسيون المصريون عن المرشح القادم للرئاسة، وأن يطرحوا أفكارهم فى هذا الشأن، حتى وإن انشغلوا عن متابعة المناقشات الجادة والعميقة لسياسات ووعود الحزب الوطنى. لقد كان من المفترض- على العكس، وكما يحدث فى «البلاد الناضجة»- أن يستجيب الحزب الوطنى للرأى العام، ويقدر هواجسه ومخاوفه، ويقول مثلاً: إن الرئيس مبارك سوف يكون هو مرشح الحزب للانتخابات القادمة، وإنه إذا حدث ما يمنع ذلك، فإن المرشح البديل هو فلان، أو إن الحزب سوف يتوافق على اسم معين من بين قياداته مثلا. وبالمثل، فلاشك فى أنه كان- ولا يزال- يتعين على أحزاب المعارضة –التى يتيح لها الدستور الحالى تلك الفرصة- أن تقدم أسماء مرشحيها المحتملين، حتى ولو كان هناك أكثر من مرشح فى كل حزب، بل ربما كان من المتصور أن تبدأ تلك الأحزاب –كما يحدث فى البلاد «الناضجة»- عملية تنافسية ديمقراطية داخل كل حزب، للتوصل إلى المرشح الذى يتوافق عليه الحزب. فى هذا السياق، كان من الطبيعى تماما، إزاء تزايد المخاوف من مخططات توريث السلطة فى مصر، خاصة مع عمليات الترويج والتسويق المنظمة للسيد جمال مبارك، أن بدأت –منذ ثلاثة أو أربعة أعوام- قطاعات من الرأى العام ومن الشباب المصرى (خاصة أولئك الناشطين على شبكة الإنترنت) تطرح أسماء أخرى بديلة، تحظى بدرجة عالية من القبول والشعبية والاحترام، سواء لدى الشباب، أو بين جماهير الشعب عموما. ويمكن هنا- على سبيل المثال- تعداد عشرات الأسماء فى «استفتاءات» الفيس بوك وغيرها على الإنترنت. إنها بالقطع ظاهرة صحية، تعبر عن صحوة لدى قطاعات نشيطة من المجتمع المصرى، ووعى بخطورة اللحظة، ورغبة محمودة فى المشاركة، ينبغى أن تقابل بكل احتفاء وتقدير، وليس بالسخرية أو التسفيه. وهكذا، وبدون أى نوايا تآمرية أو شريرة، وبسبب السلوك المراوغ من الحزب الوطنى –من ناحية- وإحجام الأحزاب -كل لأسبابه الخاصة- عن تقديم مرشحيها، من ناحية أخرى، ظهرت أسماء بعض الشخصيات العامة التى توافقت بعض القطاعات من المواطنين عليها، ربما كان أبرزهم- فى الآونة الأخيرة- الدكتور أحمد زويل، والسيد عمرو موسى، والدكتور محمد البرادعى ...إلخ. وهنا، يثور السؤال: هل هناك فرصة فعلية لأى من هؤلاء- أو غيرهم- للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية؟ إن وضع تلك الأسماء على منتديات الإنترنت وتداولها فى الصحافة المصرية المستقلة لا يعنى بالضرورة أن إمكاناتها العملية للترشيح (ولا أقول: الفوز) سهلة ومسلم بها. ونزول أى من تلك الأسماء (وغيرها) للترشح أمام مرشح الحزب الوطنى لابد أن يتم إما من خلال أحد الأحزاب القائمة، أو بالنزول كمستقلين. وكلا الافتراضين تكتنفه عقبات لا يمكن تجاهلها، فالأحزاب الرئيسية- من ناحية- يفترض أن لها كوادرها وقياداتها الأولى بترشيحها، فضلا عن ضرورة استيفاء الشروط الدستورية اللازمة. أما النزول كمستقلين، فهو أمر أكثر صعوبة بسبب القيود التى «فصلها» مشرعو الحزب الوطنى، بحيث تجعل من الصعب- بل ربما من المستحيل- على أى مرشح مستقل أن يستوفيها، ما دام خارج الحزب الوطنى. من ناحية أخرى، فإن المفترض- ما دمنا نتحدث عن بديل ديمقراطى- أن يعلن الشخص المطلوب ترشيحه نيته القاطعة الترشح للرئاسة، ورغبته فى دخول معركتها التنافسية، لا أن تتم «مبايعته» من جانب جماهير المؤيدين. إن الديمقراطية الحقة لا تعرف المبايعة، ولا تعرف إلحاح الجماهير على شخص يتمنع على الترشح، قبل أن يعلن موافقته عليه بناء على رغبة الجماهير! إن جوهر الديمقراطية هو أن يتقدم شخص أو أشخاص إلى جماهير الناخبين، يعرضون قدراتهم ومؤهلاتهم وأفكارهم وخططهم ورؤاهم، ويتنافسون فى طلب تأييدهم وأصواتهم. وربما لهذا السبب تحديدا، برز بالذات اسم الدكتور محمد البرادعى من بين الأسماء المرشحة، فهو الوحيد الذى صرح فعلاً باستعداده لدخول انتخابات الرئاسة، إذا توافرت شروط لنزاهة العملية الانتخابية. وهكذا، يبدو المشهد السياسى المصرى، فيما يتعلق بقضية الترشح للرئاسة، عبثيا وغريبا! فأغلب الأحزاب- وفى مقدمتها الحزب الوطنى- تحجم عن تقديم مرشحيها المحتملين (بحجة أن الوقت مبكر). أما الأحزاب المستعدة لتقديم مرشحيها، فتمنعها «المادة 76» وأشياء أخرى، ولا يبقى بعد هذا إلا المستقلون. ما دلالة ذلك كله؟ دلالته هى أن الأحزاب السياسية التى نشأت- أو أعيد إنشاؤها- منذ أواخر السبعينيات لاتزال تعانى ضعفا «خلقيا» يكبل قدرتها على تقديم مرشحين لأهم المناصب، أى منصب رئيس الجمهورية، فى حين أنه تتوافر بالقطع أسماء عديدة «مستقلة»، الأمر الذى يعيد تذكيرنا بالحقيقة الأساسية، وهى أننا لسنا إزاء أزمة فى البحث عن «شخص» يكون هو الرئيس، وإنما إزاء أزمة فى النظام والآلية التى تنتج لنا هذا الرئيس.