إلى صديقى المثقف المؤمن بالأشباح/ يملك مجتمعنا ميراث ضخم من الوهم، كامن فى آلة التفكير التى نستخدمها فى حياتنا الخاصة والعامة،أوهام عن عالم شبحى موازى يسيطر على مقدراتنا، ويتحكم فى كل التفاصيل، بداية من العلاقات الخاصة جداً، وصولاً لقمة الفعل الحضارى. تراث لا يستهان به من حكايات عن كائنات غير بشرية غيرت من مصائر البشر،والعديد من الأماكن المحرمة والتى يستحيل أن يقترب منها أعتى القلوب شجاعة. مفاهيم ترسخت فى الوعى الاجتماعى منذ مئات السنين، لتشكل ثقافة هذا المجتمع وسماته الفريدة والمدهشة. المصيبة الحقيقية تكمن فى لحظة تتوحد فيها تلك الأوهام مع الواقع،خاصة فى عقول مثقفينا المسئولين عن تطوير حياتنا الفكرية ،لتعكس حالة من الفصام الكامل فى طبيعة تعاملنا مع الثقافة بشكل عام.فحين يقص عليك إنسان بسيط حكايته مع العفريت الذى رآه بالأمس عياناً واضحاً حالفاً وحازماً بصحة ما رأى وما يقول،فمن الممكن أن يكون له مبرره،فعقليته غير مدربة على التفسير العلمى لظواهر حياته ومشاكلها،فيرد كل المعطيات لموروثه الاجتماعى الذى ورثه كما ورث عباءة أباه وعصا جده.ولكن أن تتحول تلك الروايات إلى أفواه من نفترض فيهم العقلنة والعلمية،فذلك هو الخلل الفصامى بعينه. فأنا أتذكر جيداً ملامح صديقى المثقف حين قرر فجأة أن يتخلص من كتاب فى مكتبته الخاصة المتخمة بشتى عناوين المعرفة الإنسانية،من علوم فلسفية واجتماعية وطبيعية،فقد كانت مفعمة بالرعب والدهشة، آتانى يشكو لى مأساته العجيبة،مع كتاب أشتراه من أحد مكتبات الأزهر ليحل له مشاكله ، فحول حياته كلها لمشكلة لا تنتهي،كتاب فى السحر كما قال لي،بل كتاب تراثى يرجع عهد تأليفه إلى القرن السادس الهجري.فصديقى يعانى من عدم قدرته على إتمام أى خطبة له،فكلما قرر أن يرتبط بأى فتاه تتعقد الأمور بشكل يستحيل معه الحل،فنصحه أحد المخلصون أن يذهب لساحر أو كما أسماه معالج بالقرآن الكريم،ولكنه قرر أن يعالج نفسه بنفسه خوفاً على سمعته الثقافية،وبدأ رحلته مع عالم السحر،وتنتهى حكايته بفشل أخر،حيث أصبح على يقين أنه ممسوس يسمع من لا يراه،ويرى ما لا يفهمه،فقرر أن يتخلص من الكتاب المأساة،وبالفعل باعه لى بعد أن نصحنى ألا أفتحه وأن ألقيه فى غياهب أى جُب عميق،ولو فى قعر المحيط،وحقيقة قد استفدت منه كثيراً فى دراستى فى مجال الشعبيات والأساطير،أقصد من صديقى بالطبع ، فالكتاب يعكس ثقافة صديقى منذ ما يقرب من ألف عام. وبعد عدة أعوام يتمكن صديقى المثقف من الزواج،وهنا بدأ الشك يعترينى ،فهل الكتاب كان ملعوناً إلى هذا الحد!!!!،الحقيقة أنى لم أحاول سؤاله ثانية حول ما حدث له بعدما تخلص من لعنته،ولكنه فاجئنى ثانية بحكاية جديدة، عن شياطين تسكن منزله،وتحاول قتله،وتفرق بينه وبين زوجته،وتنطقه بما لا يرغب،تحاول أن تعتدى عليه لم أفهم تلك العبارة جيداً ولم أسأل ولكنه ولله الحمد قد تخلص منها بواسطة أحد السحرة وكم ضخم من المربعات والمثلثات المكتوب عليها بنقوش لا يفهما إلا شياطين وأشباح صديقى المثقف.وطوال تلك المرحلة لم ينقطع عن القراءة والتأليف ونقل معرفته الثقافية والعلمية جداً بالمناسبة إلى العالم المحيط به،ومريديه المأخوذين بعمق ثقافته. حالة واضحة من تجسيد الأوهام،المعتمدة علمياً على شقين فى بنيتها الخاصة،الأول بناءه هو النفسي،الذى يتسم بمستويات ليست ببسيطة من أمراض الوسواس و الهلاوس البصرية والسمعية،والثانى بنية الوعى المجتمعى الذى يؤكد على الخيال أكثر من محاولته فهم الواقع،فالواقع لدينا لا يكتسب مشروعيته الكاملة إلا إذا كان له ما يوازيه من خيال،بحيث يشكل له ثقله فى العقل المصري. وهناك عنصر أخر لا يقل عن سابقيه أهمية وهو أسلوب تعاطينا مع مفهوم الثقافة ككل ، فثقافتنا التى من المقترض أن تحمينا من كثافة حضور الخيال المريض على أذهاننا،ثقافة استهلاكية للأسف ،بمعنى أننا تستخدمها وقت الحاجة إليها،متسقة تماماً مع طبيعة مجتمعنا الذى يستهلك كل شئ بداية بالدين والسياسة،وصولاً للمأكل والملبس.فلا تزال هناك مساحة ما تفصل بين الثقافة والسلوك فى حياتنا.وبالتالى تظل الخرافة هى الخيار السهل ،بدلاً من التفكير العلمى لتحليل الظواهر الحياتية والمجتمعية. الأمر لا يقف عن حدود الثقافة فقط،ولكن هناك ما هو أخطر من ذلك.فمصادفة تابعت حواراً أجراه الشيخ خالد الجندى مع المذيع الشهير محمود سعد،حول قضية الجان والسحر وتأثيرهما على الإنسان،وبدلاً من أن يخرج علينا عالمنا الدينى والإعلامى الذى أحترمه خالد الجندي،ليقدم بعض المفاهيم الدينية القويمة حول الصحة الدينية للسحر ،أخذنا فى رحلة حكائية مثيرة حول زواج الجان وتناسله،وما قاله الأقدمون بوجود جن ذكر وأنثى،وتأكيده بأن الجان يتناسل كما تتكاثر الخلية فى الكائنات الحية بالانقسام ،أ ى محاولة لتقديم تفسير علمى لا أدرى من أين جاء به !! عن حياة الجان،وقدرته على الإنسان. وبعيداً عن الهوس الإعلامى الكامن فى مخاطبة العامة فى أمور تتسق مع تفكيرهم وحكايتهم التى يعتقدون فيها لدرجة الإيمان.إلا أن آلية تناوله لتلك القضية بالذات تعكس فكرة غاية فى الأهمية،وهى أن نمط التفكير الخرافى ما زال سائداً حتى فى تعاطينا مع أهم الأمور الحياتية،وهى الدين، الذى يحتاج منا لإعمال العقل و التفكير إذا كان هناك رغبة حقيقية فى تجديد الخطاب الدينى بما يتناسب مع إشكاليات العصر. فالضرورة الملحة الأن والأن فقط،هى تطوير آليات العقل المنطقى ،أمام الطبيعة الخرافية التى تتحكم فى كل معطيات حياتنا،وليس معنى ما أقول أن الخرافة تعنى التخلف أو الجهل ،وإنما تعنى الثبات وعدم القدرة على التفاعل الحضاري.فللخرافة طبيعة خاصة تجعلها مهيمنة على كل أنماط التفكير الأخرى،وتصيب التفكير بشلل دائم.ففى مجتمع يتعامل فيه مثقفيه وشيوخه مع السحر بوصفه الحل الأخير أو الوحيد لكل ما يشغلنا ، دليلاً كافياً على عجزة عن التغير أو التغيير ،فالثقافة الوحيدة التى ما زالت تسيطر على أذهاننا هى ثقافة الخرافة. * أكاديمى مصري