مئات من السنين مرت، وكثيرون يحفرون في الصخر خلالها، للإمساك بوسائل تساعد على الكشف عن الكذب، لم لا؟ والشاعر محمود درويش نفسه نسج كلماته عنه بقوله «الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب، وفى الخطابة يكون الصدق ذلة لسان». أمام تطور طرق الكذب، كانت دول برمتها تدفع بكل ما أوتيت من قوة للتوصل إلى وسيلة تكشف عن الكذب، كانت البداية مع «البشعة» باعتبارها واحدة من أقدم أجهزة كشف الكذب على مر التاريخ، وإحدى مفردات التحكيم بين المتخاصمين من بدو صحراء مصر الشرقية. وفى البشعة يحتكم المتخاصمون إلى النار للفصل بينهم بلعقها عند محكم متخصص يسمى «المبشع»، تتلخص مهمته في تنفيذ حكم القضاة العرفيين، ولا يستطيع أي شخص القيام بهذه المهمة، إذ يختص بها أبناء قبيلة العيايدة، دونًا عن باقى القبائل العربية بمصر حاليًا. وفيما يخص التعريف العلمى للبشعة، يقول «جهاد النصيرى - الباحث في التراث البدوى لقبائل مصر وفلسطين والشام» إنها محكمة عُرفية، يتم فيها إثبات أو نفى تُهمة معينة مُوجهة من طرف إلى طرف آخر، وذلك عن طريق لعق المتهم قطعة حديدية توهج حراراة، وهناك بشعة قديمة كانت تتم بإبريق الماء، ولكنها اندثرت. مسمى البشعة اشتق من بشاعة الموقف، ويتعرض المتهم إلى موقف صعب ومخيف، يمثل لحظات حاسمة في تقرير مصير قضيته، فضلا عن أنها بمثابة محكمة نهائية لا تقبل النقض أو الاستئناف، إذ إن من ثبت براءته أو جُرمه ليس له أن يتمادى في التقاضى مع خصمه، بل إنه يعطى خصمه حقه أو يأخذ منه حقه إذا كان بريئًا لقاء التشهير والاتهام بالباطل. ووفقًا للباحثين فإن البشعة في هذا المجال محصورة في قبائل معينة، منذ زمن بعيد، وتنتقل في نفس العائلة بالوراثة، وهؤلاء المبشعون معترف بهم بين القبائل، ولا يمكن لأحد آخر أن يصبح مبشعًا. ويجب أن يتميز المبشع بالصلاح والتقوى والصبغة الروحية الدينية البادية عليه بجلاء، والصدق بحيث لم يُعهد عنه الكذب إطلاقًا، ومعرفته غير العادية ببواطن الأمور. وهناك 3 بشع رئيسية عند قبائل بلاد بئر السبع بفلسطين، وسيناءوالشرقية بمصر، وجنوب الأردن وشمال الحجاز في شبه الجزيرة العربية، مقسمة كالتالي: (أولها) «بشعة العيادى وهى محصورة في عائلة «أبو عويمر» من المحاسنة من السلاطنة من قبيلة العيايدة بسيناء، ومقرها اليوم في الإسماعيلية». و(ثانيها) بشعة الدِّبِرْ، وهى محصورة في الدّبُور من العمران من قبيلة الحويطات جنوبى الأردن (العقبة)، وانتهت هذه البشعة فعليًا عام 1976، بموت آخر مبشع وهو على بن مساعد الدبر، وإلغاء قوانين الإشراف على البدو، و(ثالثها) بشعة العلي، وهى محصورة في عائلة العلى من القواعين من مخلد من قبيلة بلى الحجاز (وليس بلى سيناء)، ومقرها شمال غرب الحجاز، وانتهت كما بشعة الدبر ولم تبق إلا بشعة العيادى. تبدأ جلسة البشعة بذهاب الطرفين إلى المبشع في الوقت المحدد، ويحضر كل منهما اثنين من الشهود من أجل الاطلاع على مجريات ونتائج البشعة، وإخبار القاضى الذي رفعهما إلى المبشع بالنتيجة دونما تواطؤ أو كذب، وقد يكون الشهود هم الكفلاء. وعند بدء الجلسة يجب على كل طرف أن يعين كفيلًا، يكفَّل على المدعى أن يلتزم بمواصلة سلوك الحلول السلمية المُتعارف عليها في حالة ثبتت التهمة على خصمه، مثل قبول الدية في حالة القتل، وكفيلًا للمدعى عليه، يكفَّل عليه أن يرضخ للحقوق المترتبة عليه لخصمه في حالة ثبتت التهمة عليه، ولا يبدأ المبشع عمله إلا بعد أن يتكافل الفريقان. وقبل بدء عملية البشعة يقوم المبشع بدور المصلح والقاضي، يتم شرح القضية كاملةً له، ويقدم للفريقين جميع الحلول الممكنة، وفى آخر المطاف متى فشلت هذه الحلول وتلك المحاولات، تبدأ عملية البشعة. ورغم وجود «البشعة» كوسيلة لكشف الكذب إلا أن محبى الكذب لم يرضخوا، واستغل بعضهم قدراته الإبداعية في الكذب إلى حد الكذب على دول كبرى، ما دفع ببعض العلماء لاختراع «أجهزة لكشف الكذب»، كان أولها عام 1935، واستخدمت في كشف غموض إحدى القضايا، وبعدها أصبح لهذا الجهاز دور مهم في الحياة القضائية بأمريكا في ذلك الوقت، وتوالت بعد ذلك الاختراعات المتعلقة بكشف الكذب. مؤخرًا شك البعض في أن طريقة عمل جهاز كشف الكذب تستند إلى نظرية علمية صحيحة، رغم أنه وقت ظهوره قوبل بانبهار من الجميع في ذلك الوقت، واعتبروا أنه معجزة علمية قادرة على كشف أي كاذب في فترة بسيطة من خلال مؤشرات فيزيائية. واعتمد الطالب الأمريكى ليوناردى كييلر، صاحب فكرة الجهاز، على رصيد بعض المؤشرات الفسيولوجية مثل معدل ضربات القلب وسرعة التفس وضغط الدم وتعرق راحة اليد. يتولى الجهاز قياس الشحنات الكهربية الناتجة عن التوتر، المصاحب للكذب وحينها يتوجه مؤشر الجهاز إلى الدرجة القصوى، واستخدم الجهاز في ذلك الوقت إما للكشف عن كذب المجرمين أو التحقق من مصداقية الشهود. تجربة الجهاز تمت من خلال قياس درجة تأثر الشخص بحالة عاطفية معينة، فمثلا عند طبع قبلة على شفتى المرأة تكن متأثرة بانفعال عاطفى شديد ما جعل مؤشر الجهاز يشير إلى درجة الانفعال القصوى، الأمر الذي حدث ولكن بدرجة أقل عند تقبيلها على جبينها. رغم كل ما سبق، يشكك باحثون اليوم في مصداقية جهاز كشف الكذب لأنه يعتمد على أعراض فسيولوجية يمكنها أن تزيف الحقائق بسهولة، فلنا أن نتصور مدى تسارع ضربات القلب وتعرق راحة اليد عند البعض قبيل مقابلة ما أو امتحان، أي أن نفس الأعراض التي يعتمد عليها الجهاز في كشف الكذب قد ترجع لأسباب أخرى غير الكذب، وهو ما تسبب في رفض العديد من هيئات المحاكم الأمريكية المعاصرة الاعتماد على الجهاز للتوصل للجانى والبت في مختلف القضايا، وإن كان ما زالت هناك محاكم أمريكية تقبل استخدامه كدليل إضافي بناء على طلب أحد طرفى القضية. ببساطة ترصد أجهزة كشف الكذب العديد من التغيرات في جسد الإنسان عندما يكذب، وهذه التغيرات تنعكس على الوجه والصوت والعينين، هذه النتائج يرسمها جهاز كشف الكذب التقليدي، وهو جهاز يرصد التغيرات الظاهرية في سرعة دقات القلب وضغط الدم والحركة وغير ذلك ويظهر النتائج على شاشة كمبيوتر. وسبب انتشار هذه الأجهزة هو رخص ثمنها وسهولة استعمالها. ومنذ عام 1935 وحتى الآن شهد جهاز كشف الكذب العديد من التطويرات مثله كباقى الأجهزة الحديثة، وتم في الوقت المعاصر تطوير نماذج من الجهاز نفسه تعتمد على تقنيات أكثر فاعلية في عملها مثل تتبع حركة العينين بالرنين المغناطيسي.