كنت أتجول فى المؤتمر.. متحاشيا أن أقابله، بعد أن لمحته منذ الوهلة الأولى التى دخلت فيها القاعة الفسيحة .. تعمدت ألا اقترب .. وتحاشيت أن أقف مع من يحتمل أن يكون سببا فى لقائنا .. ومع هذا وفجأة .. وجدتنا وجها لوجه .. مبتسما ابتسامة صفراء أوحت مقدما بحديثه الذى كنت أتوقعه: آه على فكرة .. هوه لسه فيه حاجه اسمها ثورة ؟ ابتسمت حينها ابتسامة حقيقية .. ولم لا وقد قررت أن اصدمه بالحقيقة – من وجهة نظرى على الأقل – ومن ثم اخذت نفسا عميقا .. نعم لسه فيه ثورة طبعا .. فأجاب بغيظ لم يحاول حتى ان يداريه : كنت عارف أنك هتقول كده لأنك مكابر .... ليست مكابرة ولكنها حقيقة ناصعة، لن تراها إلا اذا ابتعدت بمقدار محسوب ودققت فى المشهد بإنصاف ...فاستسلم حينها بأن كل ما يجرى على الساحة هو نتاج لهذه الثورة .. فلولاها بعد ربها .. ما كانت هناك انتخابات حقيقية ولا مرشحين لانتخابات رئاسية ... بعد الثورة يا صديقى أصبح لنا قدرة على الحلم بعد ان وئد فى الصدور منذ زمن .. الآن الكل يعلم ان التصدى للعمل العام يحتاج الى المرور على أجهزة الأشعة التى لا تترك شيئا فعلته إلا وحاسبتك عليه ... وهذا الجهاز تحديدا واحد من مكتسبات ثورتنا العظيمة .. فلم يثبت انه قد دخل بلادنا قبل ذلك او مر بها ... فأجهزة الأشعة لدى النظام العسكرى السابق .. كانت تقيس فى المتقدمين تاريخهم المرتبط بالنظام او الدين فقط .. واليوم المجتمع يمتلك القدرة على الحساب والأهم .. القدرة والرغبة الحقيقية على السؤال ... ليه وإزاى وأمتى ؟ تمعن قليلا يا صديقى ... فستجد ان العقل المصرى أجبر على العمل والتفكير اخيرا بعد ان كاد يعتريه الصدأ .. وان الحرمان من الممارسة الحقيقية للسياسة طيلة اكثر من ستة عقود هى التى ادت الى الحالة الفوضوية التى تهيمن على المشهد الآن ... وهى حالة صحية وعن حق ... وعلينا ان نكون على يقين ان تلقين الشعب لهذه الأصول الديمقراطية المطلوبة .. لن يتأتى تليفزيونيا أو إذاعيا او حتى بالمؤتمرات والنقاشات ... فالممارسة العملية هى السبيل الوحيد لتعلم الديمقراطية ... التجربة التى يتاح لك فيها اختيار حر تدفع ثمنه بعد ذلك طائعا مختارا .. ويستمر عقلك طيلة الوقت مجبرا على متابعة انعكاسات صوتك الانتخابى على حياتك وبلادك ومستقبل أولادك .. ويكون تكرار المواقف والاختبارات التى وضعت فيها.. قد وفرت لك جوا مثاليا للمراقبة والتحليل، وتظل متحفزا ومنتظرا الجولة الجديدة لتدعم اختيارك إذا كانت النتيجة ايجابية .. او تبحث عن خيار آخر يحقق لك نتائج أفضل ... بعد أن تكون قد صهرتك التجربة ... وأصبح صوتك مغلفا بخبرة اكبر .. وتصل الأذن إلى مرحلة أفضل من القدرة على تحليل ما يلقى اليها ... ويزود العقل بالتدريج بمصفاة فكرية تنقح الأفكار الدعائية التى تروج ... ليصل إلى خياره الصوتى، والذى سيصبح حينها أفضل بكل تأكيد ... هذا هو الطريق الوحيد للتقدم ولا شىء غيره ... والآن نحن نمشى فيه ... ولذا فنحن متفاءلون.