أضحك كثيرا هذه الأيام كلما رأيت أخبارا وصورا وتحليلات لمحاكمة مبارك، وأضحك أكثر كلما صدّق الناس هذه الإشاعة، وروّجوها وازدادوا بها انفعالا ولغطا. أضحك أفضل من أن أبكي.. يبدو أن اللواء الرويني أصبح أكثر خبرة في إطلاق الإشاعات. مَن الذي يحاكم مَنْ؟ يبدو لي أحيانا أن مبارك هو الذي يحاكمنا فعلا، فهو الذي يصر على استبقاء وإعادة أركان نظامه وهدم ثورتنا على نحو يثبت لنا أنه سيربّينا. بالأمس قرأت أن صلاح يوسف وزير الزراعة الجديد أعاد رجال يوسف والي إلى المواقع القيادية بالوزارة. هناك أخبار وأحداث كثيرة في نفس الاتجاه لا داعي لذكرها. بدا غريبا أيضا أن يختار المجلس أول أيام الشهر الكريم ليسحل المعتصمين في الميدان ويفض اعتصامهم بالقوة. لكن هذه ليست المسألة. المسألة أن يتم تفريغ الاعتصام من معناه وتحويل دلالته إلى البلطجة والإجرام. هذه الجريمة لا يحمل وزرها المجلس ولواءاته من نجوم الإعلام والفضائيات وحدهم، فالثوار يتحملون المسئولية الكبرى عن تشتتهم وعدم توحدهم خلف قيادة واحدة تقرر الاعتصام أو فضه فيعتصم الجميع أو يفضوا اعتصامهم، وتقرر التظاهر فنتظاهر جميعا في الموعد والمكان المحدد، دون فرصة لأي بلطجية يندسون بيننا حتى يشكلوا عددا ملحوظا، ودون فرصة أخرى لأي غاضبين حمقى يقررون إغلاق المجمع أو القناة. نحن المسئولون عن اختراع 34 حزبا وحركة كرتونية وعن انصراف الثوار الأصليين من الميدان لصالح عدد من المعتصمين الغاضبين، وبينهم بعض البلطجية المندسين فعلا. أعلم أن هذا الكلام يغضب الكثيرين منا، لكنه بالنسبة لي حقيقة واضحة، بدأت تجلياتها منذ إغلاق مجمع التحرير والتهديد بإغلاق القناة وإغلاق كورنيش الإسكندرية...، واستمرارا بطريقة التعامل مع أمثالي من الداخلين لميدان سعد زغلول مثلا من التفتيش المهين والمتعسف ومصادرة بطاقتي الشخصية... وغير ذلك من التصرفات التي يقوم بها الغاضب وليس الثائر، والفرق بينهما كبير. أذكر الآن (ويا لقسوة الذكرى) عصر يوم 25 يناير، حين كنا نمشي في مدينة فيصل بالإسكندرية وكان باص كبير متوقفا في الشارع الرئيسي بالمنطقة، فأخذ طفل عصا خشبية ومشى معنا وهو يضرب جانب الباص المتوقف، يومها لم نكن قد اكتشفنا أن مظاهرتنا هذه ستشعل (مع غيرها) ثورة حقيقية مدهشة، لكننا جرينا إلى الطفل ومنعناه جميعا في نفس اللحظة من استمراره فيما يفعل. ذلك الحرص هو حرص الثائر على ثورته، أما هذا الغضب فهو تنفيس المواطن المقهور عن قهره ولتذهب الثورة للجحيم، فهذا أمر لا يهمه. رفضتُ المشاركة في مظاهرة الجمعة 23 يوليو أمام المنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية لكني رأيت على اليوتيوب، وعرفتُ من شهود عيان أثق فيهم أن المتظاهرين بادروا بالاعتداء على الأهالي والسيارات حتى اصطدموا بهم، وعند تدخل الشرطة العسكرية للتفريق بينهم، اعتدى عليها عدد من المتظاهرين ورماها بعضهم بماء النار. ومع ذلك حين قامت الشرطة العسكرية باعتقال المتظاهرين اعتقلت عددا ممن ذهبوا خصيصا لفض المشاجرات وإنهاء المظاهرة. مثلا: اعتقلت الشرطة محمد منصور صديقي الطيب الذي لا يمكنه أن يضرب ذبابة، والذي لم يفارق أسر الشهداء حتى أنني حين عرفته كنت أظنه واحدا منهم. من المريع حقا أن تؤيد أغلبية المصريين فض اعتصام التحرير بالقوة، وأن يشير استطلاع الرأي الذي نشرته صفحة كلنا خالد سعيد إلى تأييد كاسح لفض الاعتصام بالقوة. من المسئول عن ذلك؟ نحن أولا ثم المجلس ووزارة الداخلية الفاسدة. هذا الوضع خطير ويحتاج الكثير من التأمل والدراسة. لا تنس أن مليونية الطرق الصوفية يوم 12 أغسطس ردا على مليونية السعودية، قصدي مليونية السلفية، ستفتح الباب أكثر لمسخ معنى الاعتصام تماما، وتحويله إلى عرض عضلات بتكاليف باهظة نحن أولى بها. أخشى أن أسمع بعد ذلك عن مليونية الأهلاوية ومليونية الزملكاوية ومليونية الاتحاد سيد البلد... أستغرب كثيرا بعد ذلك ممن ينتظرون محاكمة مبارك على أحر من جمر، سترون، إذا وقف مبارك في القفص فعلا بدون تلاكيك وأعذار صحية، إذا وقف فعلا فسيخرج لنا لسانه، وسأشعر بأننا (أنا وأنت) محبوسون في هذا القفص الكبير من الأكاذيب والتضليل والقهر. ماذا لو تم تأجيل القضية والتلاعب بها قانونيا حتى يفقد الشعب حماسه أو تزيد كراهيته للثوار والمعتصمين الذين كانوا السبب الحقيقي في تحويل مبارك للمحاكمة أصلا؟ هناك حل جميل اقترحه صديقي الناشط علي الرّجّال، وأنا أضعه (بنصه) بين يديك في محاولة للخروج من مأزقنا هذا: إيمانا مني بأن مرحلة ما بعد الثورة كامنة في طبيعة ونمط الثورة ذاتها، ومن إيماني بأهمية الديمقراطية التسابقية، وإيمانا مني أيضا بأن مشكلتنا الرئيسة هي في عدم القدرة على تخيل الذات والآخر والواقع بطريقة مغايرة مما يستتبع بالضرورة ضيق أفق تخيلنا السياسي، وردا على أخونا بتوع أم عجلة الانتاج والسياحة، وأيمانا مني بأن تجربتنا الثورية ولقائنا في الميادين والشوارع وأهمية كل منا للآخر ولو حتى على سبيل التباين واظهار الاختلاف أقترح هذا المقترح البسيط: تحويل ميداين مصر التي شهدت الثورة في الإسكندرية والسويس والتحرير والإسماعيلية وسيناء والمحلة ودمنهور إلي مساحات للتنافس واللقاء السياسي والاجتماعي عن طريق عمل مهرجان شهري على مدار يومين. في تلك الأيام يعرض كل فصيل سياسي توجه وفكره ويتعرف على الآخر وتقام المناظرات والندوات الثقافية في تلك الأيام. ويتم دعوة السياسين من كل أنحاء العالم وطلاب الجامعات. وبهذا يتحول هذا الحدث إلي فاعليات تقارب وتنافس في ذات الوقت ويساعد أيضا على ازدهار السياحة الداخلية والخارجية وينعش اقتصاديات المناطق التي تقام بها المهرجان. وتؤمن القوات المسلحة بالتعاون والتنسيق مع القوى السياسية الميادين وهو أمر ليس بالصعب. وبهذا المقترح يمكن أن نقدم حدث لم يشهده العالم من قبل -والله أعلم وأيضا نساعد القوى السياسية على التقارب. وننظم أيضا العملية الديمقراطية ونحافظ على الميادين.