بالتزامن مع إجراء المرحلة الأولى من الاستفتاء على مشروع الدستور،فى 10 محافظات مصرية،كان الناخبون اليابانيون يدلون بأصواتهم أيضا،فى الانتخابات العامة،غير أن المشهد فى مصر كان يختلف جذريا عن نظيره اليابانى .. حيث لا تجارة فى الدين،ولا احتكار للحديث باسم السماء،بدت الانتخابات وكأنها عُرس ديمقراطى،لا فوضى،لا اقتتال،لا تخوين،لا اتهامات بالعمالة،أما فى مصر،بلد الأزهر،والألف مسجد،وأصحاب اللحى الطويلة والجلابيب القصيرة،فإن المشهد بدا وكأنه حرب أهلية. فى اليابان، ذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع،وهم يمتلكون إرادتهم امتلاكا غير منقوص، لا أحد يغازلهم ببطانية أو أسطوانة غاز،أو كيلو سكر،أو زجاجة زيت،أما فى مصر،حيث حديث الجنة والنار، والحلال والحرام،»وقال الله وقال الرسول»، فإن الرشوة الانتخابية،من محتكرى الحديث باسم السماء، كانت حاضرة وبقوة، لإغراء الفقراء والمعدمين،على التصويت ب»نعم»،على دستور، لا يعرفون عنه شيئا، ولم يطالعوا منه مادة،ولكن الحاجة تعمى القلوب التى فى الصدور. مصر لن تكون دولة يمقراطية،حتى بعدما قامت فيها ثورة أسقطت نظاما كان يتخذ من التزوير عقيدة ومنهاجا،لأن النظام الذى خلفه، أضفى على التزوير صبغة دينية،ليمتلك زمام الدنيا،ومفاصل الدولة،فيما يدعو كبراؤه العامة والبسطاء، إلى الزهد والتقشف،حتى يحصلوا على مفاتيح النعيم فى الدار الآخرة. ويبقى السؤال: متى يمتلك المصريون إرادتهم،وحرية الاختيار، ومتى يتخلص النظام من استبداده وقهره،فيملى على شعبه اختيارات سابقة التجهيز،ومتى تسقط ديمقراطية البطاطين،والزيت والسكر،والغش والتدليس؟ لا شيء تغير بعد الثورة،ولن يتغير شيء،لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،والمصريون لم يغيروا بعد،ما بأنفسهم،حكاما ومحكومين،ومشهد الاستفتاء على مشروع الدستور،دليل واضح،على ذلك. قبل الثورة،كان التزوير واقعا لا فرار منه،والآن غدا التزوير مباحا باسم الدين،وأصبحت الرشوة الانتخابية حلالا،بعدما كانت حراما . وكما كان المرشحون يلعبون على حاجة الفقراء،قبل الثورة،للفوز بالمقاعد البرلمانية،فإن النظام الحالى المتمسح بالإسلام،لا يخجل من التزوير فى إرادة شعب،وتزييفها،برشاوى انتخابية،متنوعة،كالبطاطين وأسطوانات الغاز والمال السياسى،والمواد التموينية،كالزيت والسكر،لتمرير مشروع الدستور،المشوب بالبطلان. ومادام الفقر جاثما على صدور المصريين،يطاردهم أينما حطوا رحالهم،فسوف تبقى الرشوة الانتخابية واقعا،لا تمر انتخابات من غيره. وبحسب المؤشرات الاولية،فإن نتيجة الاستفتاء غير الرسمية على الدستور فى المرحلة الاولى عكست استمرار حالة الاستقطاب والتأثير على إرادة الناخبين، من الطرفين سواء التيار الإسلامى او المدنى. وبدا أن قطاعا كبيرا من الاصوات المؤيدة تأثر بعبارات الجنة والنار، وان التصويت بنعم انتصار للشريعة والقضاء على محاولة»علمنة» الدولة. وعلى الجانب الآخر وقف التيار المدنى مفتقدا آليات التأثير فى الشارع المصرى، لايملك سوى شعارات الشجب والادانة والاعتراض، على غرار ماكان يفعله مع النظام القديم، فتارة يطالب بالمقاطعة واخرى بالتصويت ب «لا» من اجل الحفاظ على مدنية الدولة. وبين هذا وذاك، تاهت إرادة الناخب الفقير بين حلم الحرية وبين التفكير فى لقمة العيش ،لتكون نتيجة الاستفتاء لا علاقة لها بواقع حقيقى،وباستفتاء دبر بليل. «فيتو» سألت نخبة من المثقفين والمفكرين ،سؤالا واضحا وصريحا،هو: إلى متى تظل إرادة الناخب المصرى رهينة بطانية تقيه برد شتاء غبى لا يرحمه،أو مواد تموينية رخيصة،أو أسطوانة غاز،قد لا يجدها أسبوعا إذا لم يسلم إرادته لأصحاب السطوة والنفوذ؟! بنبرة تشاؤمية،وبعبارة «لما ربنا يريد»، تحدث الدكتور محمد السعيد ادريس- الخبير بمركز الاهرام للدراسات- ،أن الوعى والخبرة عملية تراكمية،والعقلية المصرية ظلت عقودا طويلة أسيرة التزوير والتزييف،وهذا لن يتبدد ،مادام الفقر،وغاب الوعى،وأقحم الدين فى اللعبة السياسية. ويلتمس إدريس،قليلا من العذر للمصريين،الذين لا يجدون خيارات منطقية،فإما حديث الجنة والنار،من إسلاميين،يفقدون اعتبارهم يوما بعد يوم فى الشارع،أو قوى سياسية معارضة،تبحث غالبا عن مكتسبات شخصية،وبين الفريقين،يبقى الناخب الفقير تائها ودمية فى أيدى هؤلاء وهؤلاء.. ويجزم إدريس أن الناخب لن يصل الى الاختيار الحر،وتحرير إرادته الأسيرة، إلا بعدما يجد قوت يومه،وتكفيه الحكومة شر الحاجة. من جانبه يرى الكاتب والمفكر يوسف القعيد ان إرادة الناخب لن تتحرر إلا عندما يكون المسئول عن ادارة البلد حرا، لاتسيطر عليه ايديولوجية معينة،أو جماعة تملى عليه قراراته،متسائلا:كيف يكون الناخب حرا،بينما يبقى رئيسه أسيرا؟ وقال القعيد:الناخب المصرى،خاصة الفقير،معذور،فهو بين خيارين كلاهما مر،تيار إسلامى كاذب،وآخر مدنى واهم،ومن ثم فإنه يجد فى الفوز ببطانية او أسطوانة غاز أو كيلو سكر،مكسبا ضروريا،فى وقت تتزايد فيه نسبة الفقراء. وزاد القعيد: الناخب المصرى يستطيع أن يدلى برأيه في الانتخابات بإرادة حرة نزيهة، حينما ينتهى عصر الاستبداد، ويختفى رجال الدين الذين يخلطونه بالسياسة ، وينعدم الاستحواذ على مقاليد السلطة من جانب بعض التيارات، ويستطيع المفكر والمبدع والمواطن العادى أن يعبر عن رأيه دون إبعاد أوإقصاء،ويومئذ سوف تتحقق مصر الجديدة التى عشنا نحلم بها منذ أكثر من مائتي عام. مستشهدا بما ذكره الدكتور محمد البرادعى على تدوينته على «تويتر» إن الأمية والاتجار بالدين لن يخلقا دولة ديمقراطية. وأكد الدكتور عماد أبو غازى- وزير الثقافة الأسبق- أن تزوير إرادة المصريين فى الاستفتاءات والانتخابات،لن تنتهى،لأنها اصبحت ثقافة أنظمة وتيارات وأحزاب. ويرى الدكتور صلاح الراوى -السكرتير العام لاتحاد الكتاب- أنه بعد عقدين من الزمن قد يسترد المصريون وعيهم،ويمتلكون الإرادة الحرة التى تمنحهم القدرة على الاختيار الصحيح،والخروج عن سياسة القطيع.