ما زال الاختلاف فى تعريف ومصدر الشرعية هى الأزمة المستترة بين الجماعات المطالبة بالديمقراطية والسلطة التى ترى أن القانون هو المرجعية الشرعية، فى حين يرى الثوار أن الشعب هو مصدر الشرعية، وبالتالى فإن الثورة الشعبية تجبُّ أى قوانين جامدة تمرر الأوضاع القائمة، وتسفر قراءة كلاسيكية لمصادر شرعية الحاكم وفقا لعالم الاجتماع ماكس فيبر عن أربعة مصادر، هى إما الكاريزما أو القانون أو الكفاءة أو التقاليد بما يشمل المعتقدات الدينية أو توارث الحكم فى الأسرة المالكة على سبيل المثال، ولأن حالة مصر ما بعد الثورة تفتقر بكل تأكيد لهذه المصادر، لا يبقى سوى حجة الاستناد إلى القانون فى كل شىء درءا لشبهة عدم الشرعية. ولكن فى هذه النقطة تحديدا أربع آليات للاستعباط فى الساحة السياسية الراهنة، أولاها الانتقائية المتعمدة لتطبيق القوانين بما يقتل المرحلة الانتقالية، فتخنق الروح البيروقراطية المسار الديمقراطى المطلوب، كما يخلو التشبث بإجراءات روتينية من أى روح إبداعية أو همة واضحة أو حتى حرص على نقاء «ساعة الصفر» التى حصلنا عليها بعد أن وقف البلد على قدم لمدة 18 يوما، فالمرحلة الانتقالية أيها السادة ليست فرنا نخبز به «كيكة الديمقراطية» التى تنضج بعد حين، بل العبرة بمجموعة من الآليات والخطوات المتراكمة والمختارة بعناية بما ينتج إما نظاما سليما وإما نظاما مشوها (مثل قصة «النخلة المعوجة» التى درسناها فى المرحلة الابتدائية التى لم تجد من يقومها وهى غضة). بدت الانتقائية منذ اليوم الذى أعلن فيه المجلس العسكرى عبر «الفيسبوك» عن تسجيل الحضور لأول اجتماع مع الائتلافات الشبابية بالفاكس، وأنه سوف يغلق الفاكس بعد تسجيل عدد معين من القوى السياسية لضيق القاعة، ثم توالدت الائتلافات المجهولة لتصبح المشاركة السياسية بأسبقية الحجز بدلا من شرعيتها وقوتها فى الشارع، كما تكاثرت الأحزاب الفلولية عن عمد لتخلق زخما سياسيا موازيا للزخم الثورى، ليتمسح من بعدها الحكام فى جملة «الشعب يريد» قاصدين فقط تلك الفئات من الشعب التى لا تريد سوى أقل قدر من التغيير فى البنى الرئيسية للنظام، ومنهم حاشية مبارك والخائفون على مصالحهم، كأنما استنفد الضغط الشعبى ضرورته بالنسبة إلى ذوى الحكم بعد أن ساهم فى التمهيد لنقل السلطة. جانب آخر من الاستعباط افتعال الأزمات المتتالية فى مظاهرات الاحتجاج السلمى ثم إخمادها بالعنف بهدف ترسيخ صورة الفوضى التى توعدنا بها مبارك، كما تؤدى إلى قلقلة متعمدة للتطور الديمقراطى وتحجيم لسقف المطالب الديمقراطية لترضى القوى السياسى بدلا عن ذلك بالفتات التشريعى، الذى يلقى على مائدة مفاوضات نصفها من الفلول، كذلك يتم استغلال ورقة التفسير الأمنى لأحداث 9 سبتمبر عند السفارة و9 أكتوبر عند ماسبيرو، التى أخذت شكل حرب الشوارع المدفوعة فى مشهد عبثى دخل فيه الجيش لأول مرة كطرف غير محايد فى أحداث دامية سقط بها أكبر عدد من المتظاهرين بعد تنحى مبارك، واستخدمت هذه الأحداث كأداة ضغط على المعارضين وهو أسلوب متبع منذ أيام مبارك والسادات وعبد الناصر لتبرير أى قيود على الحريات بعد ذلك بحجة الحفاظ على استقرار البلاد، إضافة إلى اللعب على وتر الاستقطاب الذى يميز الثقافة السياسية فى مصر، الذى يؤجج صراعات جانبية بين القوى السياسية المعارضة لا يفيد سوى المسيطر على مقاليد البلاد. أما المظهر الثالث للاستعباط الذى لا يحتاج إلى شرح فيتمثل فى لوم الشعب الوحش الشرير غير الناضج وتخوين المعارضين النشطين وغير المهادنين، من خلال اتهامهم بافتراءات تعزل عنهم التعاطف الشعبى التلقائى، على سبيل المثال من خلال وصفهم بالإجرام أو الإلحاد. أخيرا ثمة مظهر رابع لسياسة الاستعباط وهو اختطاف الرموز والمصطلحات، وهى سياسة برع فيها النظام المصرى منذ عقود، فالنظام -كما تقول الباحثة إيفيزا لوبن- خبير فى اختطاف مسميات وشعارات براقة يطالب بها المعارضون، مثل العدالة أو حقوق الإنسان أو غيرها، ليستحوذ عليها ويطلقها كأسماء على مؤسسات ومجالس ولجان النظام لإضفاء الشرعية على ذاته، دون حتى أن يلتزم بالتوصيات التى توصل إليها أعضاء هذه المجالس، ويكتفى بإلقائها فى الأدراج وعلى أرفف المكتبات. ترتبط شرعية الحكم بصياغة عقد اجتماعى حقيقى جديد، أى إعادة صياغة لعلاقة الحاكم والمحكومين فلا يحكمنا إلا من يستحق وإلا من نختاره، وليس من نقبله على مضض غلبا أو اضطرارا، ومن هنا لا يصبح بديلا سوى التشبث بحلم التحرير لمصر، المعضلة الحقيقية تكمن فى السؤال: كم من المد الديمقراطى يتحمل أصحاب السلطة الحقيقية فى مصر؟ وإن كان الذكاء السياسى يحتم الاستجابة الفورية لمطالب القوى السياسية، لأن الشعب يستحق بداية أفضل للمرحلة الانتقالية إن أردناها مصر جديدة بالفعل.