من كان يصدق أن الرجل الذى ظل يصف الشعب الليبى بالجرذان طوال سنوات حكمه له التى جاوزت اثنتين وأربعين، سوف يموت ميتة الجرذان؟ معمر القذافى أكثر الحكام فى التاريخ الحديث احتقارا لشعبه وإذلالا له وإجراما فى حقه، مات فى العشرين من أكتوبر 2011 ميتة الجرذان، حيث كان متخفيا داخل ماسورة للصرف فى أحد الوديان القريبة من مسقط رأسه فى سرت بعد غارة تعرض لها موكبه وهو يفر من مكان إلى مكان تماما كما تفر الجرذان، لتتكامل الآيات الربانية للذين ظلموا أنفسهم وشعوبهم وظنوا على مدى أكثر من أربعين عاما من المظالم والمفاسد والطغيان أن عدالة السماء لن تنال منهم! الصور التى انتشرت على مواقع الإنترنت وعلى شاشات الفضائيات وفى الصحف العالمية لمراحل مقتل هذا الطاغية وابنه المعتصم تشير إلى أنهما ظلا إلى اللحظة الأخيرة يمارسان الكبر والطغيان، وسواء اختلف الناس أو اتفقوا على الطريقة التى تم التخلص بها منه مع كثير من أعوانه، فإن المصير الأسود وسوء الخاتمة يعطى الدلالة على أن الله سبحانه عادل فى قضائه، وإن الساعات الأخيرة للقذافى، بل إن أيامه الأخيرة كلها وما عايش فيها من ذل حتى الرمق الأخير فى حياته، تؤكد أن عواقب الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين عادة ما تكون عبرة لمن يعتبر. ما زلت أذكر تلك اللحظات التاريخية التى عشتها وعاشها ملايين المصريين، بل عشرات الملايين فى أرجاء الدنيا، حينما تنحى حسنى مبارك مُكرَها فخرج هؤلاء يحتفلون بزوال طاغية ظالم مستبد، خرج الناس فى كل أنحاء العالم العربى يحتفلون بزوال مبارك ونهايته، وامتدت رقعة المحتفلين لتشمل كثيرا من أرجاء الدنيا حتى فى بلاد ما كان أهلها يسمعون عن مصر أو أين موقعها الجغرافى، وهذه دلالة على حجم الخزى والعار الذى ألحقه الله سبحانه وتعالى بمبارك، وقد تكلل هذا الخزى والعار بصورته وهو يقبع فى القفص ذليلا مع أبنائه الذين سلطهم على الناس يذيقونهم الهوان والظلم وهو يتلذذ وهم يتقاسمون مع الناس أرزاقهم وأموالهم وينهبون من خيرات البلاد كأنها أصبحت حكرا عليهم، ثلاثون عاما من حكم مبارك اختُزلت فى صورته مع أبنائه ذليلا فى القفص، واثنان وأربعون عاما من حكم القذافى اختُزلت فى صورته وهو يرجو الشباب وبعض الأطفال الذين أخرجوه من الحفرة أن لا يقتلوه، وأكثر من ثلاثين عاما من حكم على عبد الله صالح سوف تُختزل فى صورته ذات الوجه المحترق، وخمسة وعشرون عاما من حكم بن على سوف تُختزل فى فراره بحثا عن ملجأ من الشعب الذى أذاقه الهوان على مدى ربع قرن... إنها نهايات الطغاة فى عصر الصورة والمعلومات تتطاير إلى أرجاء الدنيا فى مشاهد لن تزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن كالعادة لا أحد يعتبر. خلال زيارتى طرابلس دخلت مكتب المعتصم القذافى حيث كان الثوار يسيطرون عليه، وكان أبوه قد عينه مستشارا للأمن القومى، واستقبل كبار المسؤولين فى الولاياتالمتحدة وأوروبا بعدما فتح القذافى خزائن بلاده لهؤلاء يغرفون من خيرات الشعب الذى كان يعيش تحت الفقر والهوان، لم أنبهر بالأثاث الفاخر جدا داخل المكاتب والمبنى بشكل عام، ولكنى ذهلت أمام عشرات الصناديق التى حوت الوثائق الخاصة بالمعتصم، وقد أطلعنى عبد الرزاق البقالى نائب رئيس اللجنة الأمنية فى طرابلس على عشرات الوثائق التى احتوت على عمليات ملاحقة الناس وعمليات الإعدام والتصفية التى كان يقوم بها المعتصم القذافى، وعمليات التعذيب والقمع والملاحقات وعشرات الملايين من الدولارات التى كانت تحول من أجل عمليات الملاحقة لليبيين فى الخارج والداخل، والعجيب أن النظام الدموى للقذافى قد وثق كل شىء ومعظم القضايا الكبرى مثل لوكربى والحروب التى خاضها القذافى فى إفريقيا وغيرها والمليارات التى بددت من أموال الشعب الليبى على مغامرات القذافى وتصفية عشرات الليبيين فى الخارج وملاحقتهم كلها مدونة، كان المعتصم الذى كانت نهايته دموية دمويا ساديا إلى حد كبير، واستولى الثوار على وثائق كثيرة عن ممتلكاته فى سويسرا وإسبانيا وإيداعاته الكثيرة هناك، كما حصلوا على وثائق تتعلق بكل العمليات القذرة التى قام بها، وقد اطعلت على بعضها، لذلك لم أستغرب ولم أتعجب للنهاية الدموية وعشرات اللقطات التى أظهرته تارة وهو يدخن وتارة وهو نائم على مرتبة قذرة فى مكان قذر، وتارة وهو يشرب الماء... الذين عرفوا جرائم المعتصم أدركوا أن هذه نهاية طبيعية له وعدالة ربانية، كما أن الذين عرفوا جرائم القذافى وحُرموا من أبنائهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو زوجاتهم الذين قام بتصفيتهم بوسائل شتى هؤلاء هم الذين خرجوا فى شوراع ليبيا وفى كل مكان فى العالم ليحتفلوا بموت الطاغية ونهايته، وإذا كان الناس عادة يحزنون فى الموت فإن الفرحة التى عمت الدنيا لموت هذا الطاغية تكشف كم كان هذا الإنسان وبالا على البشر والبشرية جمعاء. إن سيرة حياة القذافى هى مسيرة طويلة من الفساد والظلم والاستبداد والطغيان، وقد كانت نهايته نهاية لعصر من الهرطقة والكذب والشعوذة والدجل، حتى إنه حينما قُتل وجدوا فى جيوبه بعض الأحجبة التى صنعها له السحرة الأفارقة الذين لم يكونوا يفارقونه حيث كان يعتقد أن إمهال الله سبحانه للطغاة يعنى عدم انتقامه منهم، لكن لحظة الانتقام عادة ما تكون قاسية وعلى قدر الظلم الذى مارسه الطاغية لشعبه وللناس، وعادة ما يشفى بها الله صدور قوم مؤمنين، ليس القذافى أول الطغاة ذوى النهايات التى تحمل العظة والعبرة، ولن يكون آخرهم، ولكن السؤال دائما هو: لماذا يشاهد الطغاة نهاية أمثالهم ولا يعتبرون؟ الإجابة بسيطة، وهى من سنن الكون أيضا، وتتلخص فى أن الله يطمس على قلوبهم وعقولهم فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.