بمجرد انتشار خبر وصور مقتل معمر القذافي.. تداعت إلى ذاكرتي مباشرة المقولة الشعبية الراسخة في نفوس شعوبنا العربية المسلمة في مجموعها الأعظم وهي مقولة: اللهم لا شماتة.. حاولت قبل أن أسطر هذه السطور أن أقف على أصل هذه المقولة التي تتردد على ألسنة كل الناس باعتبارها حكم ديني إسلامي.. فلم أستطع أن أجد لها أصلا.. ولكن هذا لا يمنع أن نجزم واثقين أن الإسلام نَهَى عن المُثلة.. وأن كرامة الإنسان ورهبة الموت تمنع يقينا من التنكيل بالميت.. بل إنه أمام جثة أي إنسان أيا كان موقعه في الدنيا لا نملك إلا أن نقف خاشعين متأسين بحديث نبينا صلى الله عليه وسلم عندما وقف لجنازة يهودي وأجاب أصحابه رضوان الله عليهم: أليست نفس؟ وقبل أن نتجاوز هذا المشهد المصاحب لقُفول صفحة القذافي وحكمه لننتقل إلى قضايا أكثر أهمية وجدوى من البحث عن التجاوزات التي يمكن أن تكون صاحبت مقتله أو التي قد تكون حدثت – أو لم تحدث – في إظهار الفرحة حول جثته التي كانت يجب أن توارى بالدفن العاجل احتراما لكرامة الإنسان – أيا كان – التي كفلها له المولى عز وجل.. قبل أن نتجاوز هذا المشهد أجدني معترفا أن من حق ضحايا الطاغية أن يشعروا بشفاء الصدر بهذه النهاية المأساوية لطاغية جسم على صدور أجيال متعاقبة أكثر من أربعة عقود كاملة.. وأن القرآن الكريم لم ينكر المشاعر الإنسانية الطبيعية التي تعتري النفوس البشرية .. فقال تعالى : " قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ{14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{15}التوبة وبدهيا أن استشهادنا بالآيتين الكريمتين ليس له علاقة بتكفير الطاغية من عدمه، فلست مؤهلا في الأساس لتناول القضية من هذه الزاوية فضلا عن أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تكفّر مسلما بكبائر الذنوب والمعاصي، وإنما الشاهد من الاستشهاد هو جواز وجود غيظ القلب وشفاءه بالانتقام الذي يحدث من الظالمين.. إنما ما دفعني لكتابة هذا المقال هو ملاحظة سلوك الطاغية.. هذا السلوك الذي يكاد يمثل شكلا نمطيا لشخصية كل الطغاة عبر التاريخ قديمه وحديثه.. أتوقف تحديدا أمام مشهد النهاية مذهولا وأنا أرى الصورة التي حاول الطاغية رسمها لشعبه في بداية الثورة ومنتصفها قبل أن تسقط طرابلس في أيدي الثوار.. لقد وصف شعبه بالجرذان الذين ينتشرون في السراديب وتحت الأرض، ثم توعدهم بالمطاردة من بيت لبيت وزنقة زنقة ودار دار – تلك المقولة الخالدة التي أصبحت فواصل الفضائيات الكوميدية ورنات الموبايل أيضا – ثم تشاء إرادة الله تعالى أن يُعلن عن أسر القذافي أو قنصه رغم اختبائه في ماسورة صرف صحي – وسواء صدقت هذه الرواية أم لم تصدق فإنها تجسد صورة اختباء الجرذ التي حاول مرارا أن يلصقها بشعبه الصابر المناضل.. وأكدت مصادر حرسه التي ظلت تحميه حتى اللحظة الأخيرة وآمر الحرس الذي أصيب بجواره في لحظات الختام.. أن القذافي وأبناءه ومعاونيه كانوا يعيشون في سِرْت أيامهم الأخيرة – منذ سقطت طرابلس – متنقلين من بيت لبيت ومن دار لدار ومن زنقة لزنقة ومن تجمع سكني لآخر!! نفس الصورة التي رسمها الرجل لشعبه هي نفس الصورة التي انتهت بها حياته.. فهل كان الرجل يكذب وهو يصور شعبه على هذا الشكل؟ أم أنه كان يرى بعين خياله التصرف الطبيعي الوحيد الذي سيتصرفه هو لو كان في مكان شعبه مطاردا بكتائب المرتزقة والقتلة التي أنفق عليهم ثروات بلاده من أجل قتل الشعب الأعزل الصامد؟.. لقد كان الطاغية يرسم لنا صورته هو، وكان يصف شعبه من خلال رؤيته هو وفي حدود ثقافته هو ومن خلال ردود أفعاله الطبيعية المتوقعّة منه هو شخصيا.. حتى عندما كان الطاغية يظن أنه يَسُب شعبه أو يصفه بما لا يليق فلم يكن يمارس معهم سوى ما يسمى في علم النفس بالإسقاط.. هذا هو سلوك الطاغية فهو لا يرى إلا ذاته، لا يرى أبعد من أنفه.. يرى نفسه المنتفشة فقط.. يعلن أنه البطل الأعظم في حين أنه يؤمن في قرارة نفسه بأنه الجرذ المطارد من زنقة لزنقة ومن بيت لبيت ومن دار لدار .. رغم كونه كان مازال في وسط حراسته وكتائبه ومازالت المرتزقة تتدفق عليه بفاعلية الدولار.. والبترول الذي يفجر هذه الفاعلية المالية مازالت ينابيعه تحت يديه وأيدي كتائبه!! أفضى الرجل إلى ما قدّم وهو الآن بين يدي ربه سبحانه وتعالى الشهيد الحكم العدل الحق.. لم تعد لنا قضية مع الرجل.. لم يعد الكتابة عنه أو التحدث في شأنه شيء ذو بال، أو يجب أن يكون الأمر كذلك.. لم يبقَ منه سوى العبرة والعظة بلا شماتة ولا تشفّي ولا غيرها من أحقاد النفس أو مشاعرها.. ذهب الطاغية ونحن مطالبون بأن نلتمس العبرة من حياته ونهايته كما عقّب الله تعالى على قصة فرعون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى }النازعات26 ذهب الرجل.. وترك لنا العبرة لمن أراد أن يعيد تجربة الطغاة من جديد.. وترك لشعوبنا الأبية المناضلة الصابرة المحتسبة شعارا خالدا يردد مع الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر فإن إرادة الشعوب التي تتحول إلى عمل دءوب ودعاء مخبت لله تعالى لابد أن يستجاب لها فلا يرد القدر إلا الدعاء.. وصدق الفاروق عمر إذ قال: إنما نَفرُّ من قدر الله إلى قدر الله.. فقدر الحرية والكرامة والعدالة والمساواة هو القدر الحق الذي هو أحب إلينا من قدر موهوم بالاستكانة والظلم والخضوع والذلة.. عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية