نعم، الولاياتالمتحدة هى القوى العظمى الأولى فى العالم، وهى تقود منظومة الدول الغربية، وتعد القوى المهيمنة على النظام العالمى منذ نهاية الحرب الباردة، صحيح أن قوتها تراجعت فى السنوات الأخيرة لمصلحة قوى دولية صاعدة كالصين وفى طريق العودة للصعود مجددًا كروسيا، هذا إضافة إلى بروز قوى إقليمية فى طريقها لدخول العالم الأول كالبرازيل، إلا أن الصحيح أيضا أن الولاياتالمتحدة تظل هى القوة الأولى من حيث مكونات القدرة الشاملة وسوف تظل على رأس المنظومة الدولية عقودًا قادمة، وربما لا تلحق بها قوى أخرى، بمعنى أن تظل الولاياتالمتحدة القوى الأولى فى العالم، وتأتى باقى الدول خلفها، وكل ما يمكن أن يحدث هو تراجع فجوة القدرات بينها وبين القوى التالية لها فى المنظومة الدولية. ما يهمنا من هذا الحديث هو موقع بدلنا مصر ضمن هذه المنظومة، فالخطيئة الكبرى التى ارتكبها الرئيس الراحل أنور السادات كانت إلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتى والتحول إلى التحالف التام مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد حول السادات وجهة مصر من الشرق إلى الغرب بطريقة جذرية، بمعنى أنه خسر موسكو والشرق أولا ثم ذهب إلى الغرب طالبا التحالف دون سند قوى، بمعنى أنه فقد أوراق المناورة من قبل أن يتوجه إلى الغرب، ذهب إلى واشنطن دون أوراق قوة تذكر سوى «بيع دور مصر» وهو ما تلقفته واشنطن، ومن ثم حولت مصر إلى دولة تابعة لها تحت مسميات أخرى. وفى عملية تحول من الشرق إلى الغرب أساء السادات إلى صورة مصر ومكانتها كقوى إقليمية عندما قدم أسلحة روسية متطورة إلى واشنطن كى تفحصها، وهو أمر يعد نوعًا من الخيانة الكبرى فى مجال العلاقات الدولية، وأيضا عندما قرر السادات أن تكون مصر حلقة من حلقات الولاياتالمتحدة فى الحرب الباردة مع المعسكر الشرقى، فقد قبل السادات (مع باكستان والسعودية) التعاون مع المخابرات الأمريكية من أجل محاربة القوات السوفييتية فى أفغانستان اعتبارًا من العام 1979، وهو التعاون الذى أسفر عن تشكيل جماعات المجاهدين التى شكلت نواة تنظيم القاعدة، فى ما بعد. قبل السادات لعب دور الوكيل الإقليمى لواشنطن والمعسكر الغربى وتعاون معهم ضد الاتحاد السوفييتى ودول المنظومة الشرقية، وهو ما أثار استياء موسكو فى ذلك الوقت. حافظ الرئيس الأسبق مبارك على معادلة السادات وواصل سياسة تقزيم مصر وتحويلها إلى حليف إقليمى لواشنطن، أكثر من ذلك عمل مبارك على توظيف العلاقات مع واشنطن لخدمة مشروع التوريث لنجله جمال، فقد قبل مبارك أن يحول مصر إلى مجرد تابع للسياسة الأمريكية فى منطقة مقابل أن تتوقف واشنطن عن مطالبته ببناء نظام ديمقراطى أو احترام حقوق الإنسان، أبرم مبارك صفقة مع واشنطن تعهد من خلالها بالعمل على خدمة السياسة الأمريكية فى المنطقة وتنفيذ مكوناتها بالكامل مقابل ترك الشأن الداخلى لمصر له يرتبه على النحو الذى يريد، أى أنه باع دور مصر الإقليمى لقاء تثبيت نظام حكمه وإدارته على النحو الذى يريد. وظلت علاقات مصر بموسكو طوال هذه السنوات تتسم بالفتور، فرغم تفكك الاتحاد السوفييتى وتحول روسيا إلى النظام الرأسمالى فإن روسيا ظلت قوى عظمى وحافظت فى الوقت نفسه على مكونات الرؤية للأمن القومى الروسى والتى لم تتغير كثيرًا بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتى، ومع تعافى روسيا اقتصاديًّا واجتماعيًّا بدأت تمدد رؤيتها الاستراتيجية وتستعيد بعضًا من أركان سياستها السوفييتية، وإن بأشكال جديدة وأوراق مغايرة، فقد عادت روسيا لتمارس بعضًا من أدوار القوى العظمى، بينما ظلت مصر قابعة فى مكانة «الحليف الاستراتيجى لواشنطن» وهى فى الواقع أقرب إلى الوكيل الإقليمى للسياسة الأمريكية. جاءت ثورة 25 يناير فتدهورت العلاقات أكثر وأكثر بفعل التحالف الجديد بين الإسلام السياسى فى مصر والولاياتالمتحدة، العداء التاريخى الشديد بين تيار الإسلام السياسى (وجماعة الإخوان فى القلب منه) والاتحاد السوفييتى، حيث قاتل المجاهدون، القوات السوفييتية فى أفغانستان، ووجدوا على أراضٍ روسية كالشيشان، ولم تكن زيارة الرئيس المعزول محمد مرسى لروسيا إلا فصلًا من مسرحية هزلية من ممثل فاشل لا يعرف أبجديات العلاقات الدولية، وهو ما لم ينطل على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين. الآن وبعد ثورة الثلاثين من يونيو، بات مطلوبًا وبشدة كسر دائرة الدوران فى فلك السياسة الأمريكية والانفتاح على قوى دولية أخرى فى مقدمتها وعلى رأسها روسيا الاتحادية والصين، ولا يعنى ذلك معاداة واشنطن أو الغرب ولا نقوم بعملية تغيير فجائى فى توجهات السياسة الخارجية المصرية، لكن نقوم بذلك من منطلق إعادة التوازن إلى سياسة مصر الخارجية وإخراج مصر من دائرة التبعية لواشنطن وإعادة الاعتبار لقيمة ومكانة ودور مصر، ومنح مصر فرصة لممارسة دور القوى الإقليمية الرئيسية بعد عقود من القبول بدور «العمالة» للغرب، وهو ما تخشاه واشنطن اليوم وتحسبًا له تعمل على تفريغ ثورة ثلاثين من يونيو من محتواها، وتسعى بكل قوة لأن يكون رئيس مصر القادم نسخة من السادات، مبارك أو مرسى، لكنه أبدًا لن يكون من «عبد الناصر» من زاوية الوطنية والشعبية التى منحته صفة «الكاريزما» أى القائد المحبوب من شعبه.