موسكو وطهران والمصلحة المشتركة علي جرادات تشكل التغيرات النوعية في ميزان العامل الدولي، والحسابات الاستراتيجية لأطرافه النافذة، فضلاً عن دقة قراءتها وحُسْنِ استثمارها، عاملاً حاسماً في نجاح أو فشل الدول والأمم الأخرى في زيادة عوامل نفوذها وقوتها. في السياق، يبدو أن إيران الطامحة لامتلاك الطاقة النووية وتوسيع نفوذها الإقليمي، تلعب لعبة العامل الدولي ببراعة، يساعدها في ذلك عوامل ومتغيرات عدة، أهمها مستجد السياسة الروسية تجاه تفرد السيطرة الأمريكية وحماقات عنجهيتها، منذ تفكُّك الاتحاد السوفييتي وغيابه كقطب ثانٍ في السياسة الدولية. منذ شهور كان الرئيس الروسي بوتين قد كشف عن مستجد نوعي في السياسة الروسية، وذلك في خطابه أمام المؤتمر الثالث والأربعين حول الأمن في ميونخ. يومها قال بوتين كلاماً كبيراً وخطيراً، رأى فيه كثيرون، وبضمنهم طهرانوواشنطن، بداية عودة لمرحلة الحرب الباردة. ففي تلميح لاحتمالية أن تكرر واشنطن حماقة حربها الكارثية في العراق، عبر شن حرب ضد إيران، قال بوتين آنذاك: إن “استخدام القوة لا يكون مشروعاً إلا على أساس تفويض مِن الأممالمتحدة، وليس مِن منظمة حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي". وفي الآونة الأخيرة، وفي ثلاث محطات متتالية: قمة الدول الخمس المطلة على بحر قزوين، وزيارته لإيران، وبرنامجه الإذاعي السنوي؛ عاد بوتين وأكد على مستجد سياسة بلاده تجاه التفرد الأمريكي وغطرسته، وخاصة في الشرق الأوسط، وفي العراق ومع الملف النووي الإيراني تحديداً. الخطاب الجديد للسياسة الروسية، ينطوي على مستجد كبير آخذ بالتشكل في ميزان القوى الدولي، ذلك أنه أول خطاب لقطبٍ دولي نافذ يتجاوز باب النصح، ويأتي مِن موقع الخصومة، لنظام القطب الأمريكي الواحد. وبالتالي، فإنه يمثل أكبر “حجر" يجري قذفه في المياه الراكدة لعربدة نظام التسيد الأمريكي، الذي أصبحت تضيق به ذرعا عدة أقطاب دولية، في مقدمتها روسيا، التي أمعنت السياسة الأمريكية في المساس بمصالحها، وعدم مراعاة ولو الحد الأدنى منها، ما يفرض عليها التحرك لإجراء تعديلات على واقع العلاقات الدولية، لا تعدو “تململات" بوتين فاتحة لها في مواجهة الأحلام الإمبراطورية الأمريكية، عبر الضغط على شرايينها الراعفة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولعل هذا بالضبط، (علاوة على ما تملكه مِن أوراق قوة أخرى لا مجال لذكرها)، ما تدركه طهران، ويساعدها على مواصلة تحديها للسياسة الأمريكية، والمضي قدماً في برنامجها النووي. فطهران لا تعي فقط أن موسكو قد اختارت الزمان والمكان المناسبين للضغط على أوجاع مفاصل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بل تعي أيضاً ما بين روسيا ومنطقة الخليج مِن مصالح يفرضها التقارب الجغرافي، علاوة على وعي أضرار روسيا جراء محاصرة واشنطن لها في أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، مع عدم نسيان وعي طهران للرغبة الروسية برد الصاع لواشنطن على ما فعلته ضدها في أفغانستان. وأكثر مِن ذلك، فإن طهران تدرك أن اختيار موسكو لمنطقة الخليج مكاناً للتخفيف مِن التفرد الأمريكي والضغط على شرايينه الموجعة، إنما يندرج في إطار محاولة لاسترجاع ما كان لروسيا مِن حلمٍ تاريخي ثابت ودائم بالوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي. فكل مَن يقرأ تاريخ صراع القوى العظمى على تقاسم مناطق النفوذ، سيلحظ استماتة روسيا (القيصرية والسوفييتية) في الوصول إلى هذه المياه، وسيجد أن العديد مِن حروب روسيا وتحالفاتها قامت لتحقيق هذا الحلم. وبالتأكيد، فإن طهران تعي هذه الحقيقة التاريخية أكثر مِن غيرها، فهي لم تنسَ أن هذا الحلم الروسي التاريخي هو ما دفع روسيا القيصرية لاجتياح إيران عام ،1826 وهو ذات الحلم الذي دفع روسيا السوفييتية سوية مع بريطانيا لاجتياحها عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك لتأمين معبر إسناد بريطاني لروسيا، برغم موقف إيران الحيادي مِن تلك الحرب، كما أن طهران لم تنسَ أن روسيا السوفييتية حاولت الإفادة مِن استيلاء مُصدق على السلطة في إيران عام 1953 لضرب نفوذ حلف بغداد الغربي، وأن رسوخ تحالف نظام الشاه مع الحلف الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة، كان أعاق محاولات نفاذ السوفييت، عبر الصداقة مع العراق، إلى المحيط الهندي الواقع جنوبإيران باتجاه الهند. تلك حقائق تاريخية تعيها القيادة الإيرانية، وتستند الى دلالاتها في رسم تكتيكات المواجهة مع واشنطن، وتستفيد منها بما يساعدها على الإفادة مِن الورطة الأمريكية في العراق، ناهيك عن الاستفادة مِن الغضب الشعبي العربي والإسلامي ضد واشنطن وحروبها الكارثية في المنطقة، علاوة على انحيازها المطلق للكيان الصهيوني، واستماتتها في الحفاظ على تفوقه. وهذا ما لن يستطيع الرئيس الأمريكي بوش تجاوزه مِن خلال الدعوة الى “لقاء الخريف" الدولي شكلاً والأمريكي مضموناً. فالكل يعرف أن هذا “اللقاء" لا يعدو كونه أكثر مِن موسيقى تصويرية لتوفير أجواء مناسبة وتحالفات سياسية، تساعد واشنطن في معالجة التحدي الإيراني، وفي محاولات التخلص مِن مصاعب سياستها العدوانية وانتكاساتها في المنطقة عموماً، وفي العراق ولبنان وفلسطين تحديداً. عن صحيفة الخليج الاماراتية 23/10/2007