عمر بن عبد العزيز.. خلافة سنتين وخمسة أشهر فقط والده هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من أفضل من أنجبت العائلة الأموية. بقى أميرا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيِّمه: اجمع لى أربعمئة دينار من طيب مالى، فإنى أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) وهى حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقيل اسمها ليلى، والمرجح أن مصاهرته آل الخطاب ما كانت لتتم لولا علمهم بحاله وثقتهم بحسن سيرته وجميل أخلاقه. أُحب أن أسميه (عمر الثانى) والذى أعتقد أن رحلته فى سبيل استعادة نمط الخلافة الراشدة التى تلتزم مسالك الحق والعدل ووسائل المساواة والديمقراطية الإسلامية كانت من أشق وأصعب ما يمكن.. وقد لا أبالغ إذا قلت إن مهمته كانت أشد وأعقد من مهمة الخلفاء الراشدين الذين سبقوه.. فقد جاء عمر الثانى فى ظروف تسلط فيها الملوك الأمويون على المسلمين وعصفوا بنظام الشورى الذى كان متبعًا فى تولية من يحكم، وثبتوا فكرة ولاية العهد وانفراد الحاكم بالسلطة والقرارات. ورغم أن الطريقة التى جاء بها عمر بن عبد العزيز هى تلك الطريقة المرفوضة والمستهجَنة، وهى فكرة ولاية العهد التى تجافى الأسلوب الأمثل فى حرية اختيار الحاكم ومبايعته، فبعهد من سليمان بن عبد الملك تولى عمر الخلافة (99 هجرية)، فإنه بمثاليته الرائعة التى كانت تستند إلى إيمان خالص ويقين صادق، وبحُسن إدارته أمور الدولة والرعية، أصبح موضعا للاحترام والتبجيل، وكانت كلمات عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، أصدق وصف وأجمل تعبير عن هذه الحقيقة حين قال: «أخذ عمر الخلافة بغير حقها، ثم استحقها بالعدل». وقد استهدف عمرو بن عبيد من وراء هذا التشخيص الدقيق أن لا يكون الرضا عن سياسة عمر سببا إلى الرضا بالطريقة التى استُخلِفَ بها. وإذا كانت خلافة عمر قد استمرت سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام، فإن هذه الفترة القصيرة قد سجلت إنجازات جليلة تقف دائما شاهدا ودليلا على القدرة الخارقة للعدل حين يكون شعارا لحاكم نزيه يبدأ فى برنامجه الإصلاحى بنفسه. فقد كان دخل عمر قبل الإمارة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمئة دينار فى كل سنة! وبعد توليه الخلافة مباشرة، أمر عمر برد المظالم والقطائع والأموال المغتصَبة من الأمة بغير الحق، والتى كان الخلفاء والأمراء الأمويون قد حازوها منذ علا نجمهم فى خلافة عثمان بن عفان.. وتعاون مع الخليفة فى ذلك غيلان الدمشقى قائد تيار «العدل والتوحيد» هذا التيار الذى يمثل السلف الأول لتيار المعتزلة. فكان غيلان يقف لينادى على هذه الثروات لبيعها ويدعو إليها الناس قائلا: «تعالوا إلى متاع الخونة.. تعالوا إلى متاع الظلمة.. تعالوا إلى متاع من خلف الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى أمته بغير سنته وسيرته». ونجحت كلمات غيلان ذات الوقع الشديد على النفوس والآذان فى أن تجعل من رد المظالم الأموية إلى بيت مال المسلمين عملاً سياسيًّا واجتماعيًّا وثوريًّا من الدرجة الأولى، ولم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بنى أمية وردها إلى بيت المال، بل خطا خطوة أخرى، إذ أعلن لأبناء الأمة أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بنى أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكى يُرَدّ عليه حقه.. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وأدلتهم وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى.. أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات، وقد حدث أن بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتُصبت أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت فى مجيئك إلىّ؟ قال: يا أمير المؤمنين تسألنى عن نفقتى وأنت قد رددت علىّ أرضى وهى خير من مئة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهمًا كتعويض له عن نفقات سفره.. وكم كان عمر عبقريًّا فى قراءته الواقع وفى تعامله مع الوقائع، فبإدراكه الواعى لفساد الولاة قبله وظلمهم للناس حتى أصبحت المظالم كأنها أمر طبيعى، فإنه لم يكلف المظلوم بتحقيق البينة القاطعة لإثبات حقه، وإنما يكتفى باليسير من الأدلة، فإذا عرف أن للمدعى حقًّا رده إليه دون أن يكلفه تحقيق البينة، فقد روى ابن عبد الحكم: أنه كان يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، وكان يكتفى باليسير، إذ عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس. ومما يذكره التاريخ لعمر بن عبد العزيز إنصافه العاجل للموالى الذين تعرضوا قبل خلافته للظلم والعسف، فقد فُرضت الجزية على من أسلم منهم! كما مُنعوا من الهجرة مثلما حدث للموالى فى العراق ومصر وخراسان، وفى عهد عبد الملك أوقع الحجاج بالموالى ظلمًا عظيمًا، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم، وهذا ما دفعهم إلى الاشتراك فى ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج، كما وقع الظلم على الموالى فى مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التى لحقت بهؤلاء الموالى وكتب إلى عماله يقول: «.. فمن أسلم من نصرانى أو يهودى أو مجوسى من أهل الجزيرة اليوم فخالط المسلمين فى دارهم، وفارق داره التى كان بها فإن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم…». وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح يقول: «وإن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (التوبة، الآية: 5) وقال: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة، الآية: 29). إلا أن هذا العامل أرسل إلى عمر يقول: أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن نابتة عشرون ألف دينار أتممتها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل. وجاء رد عمر: أما بعد، فقد بلغنى كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولى بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم. قبَّح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديًا ولم يبعثه جابيًا». كما كتب إليه عامله على البصرة عدىّ بن أرطأة يقول: أما بعد، فإن الناس كثروا فى الإسلام وخِفت أن يقلّ الخَراج. فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا. هذا إلى جانب إبطاله لقرار المنع من الهجرة التى أوقعها الحجاج بالموالى فى العراق.. وكان من عادة بنى أمية أن يسبّوا عليًّا من على المنبر فى خطبة الجمعة، فأبطل عمر ذلك وقرأ مكانه: «إن الله يأمرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون».. واستمرت قراءتها منذ ذلك الحين. واشتهر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان وهو خليفة يسأل دائما عن الناس ويتفقد أحوالهم بنفسه، فيقول له خادمه وهو يسحب البرذون ليركبه: «كل الناس فى راحة يا أمير المؤمنين إلا أنت وأنا وهذا البرذون». وعُرف عنه أيضا أنه كان يتسلم البريد من كل الناس مهما دنت مقاماتهم أو علت ويجيبهم وينصفهم أو يجيبهم ويكتب إلى ولاة بلادهم للنظر فى أمورهم. وهناك إجماع من كل المؤرخين الذين أرّخوا لسيرة عمر بن عبد العزيز أنه كان زاهدا للملك، فلم يقرب ما تركه الخليفة السابق وما هو عُرف له من ممتلكات عند استخلافه، فرفض الدواب والجوارى والثياب وأعاد كل ذلك إلى بيت المال. وكان أولاده من أقل أولاد الناس مالًا فقيل له: هؤلاء بنوك -وكانوا اثنى عشر- ألا توصى لهم بشىء فإنهم فقراء؟ فقال: «إن وليى الله الذى نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين». والله لا أعطيهم حق أحدٍ.. وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فِسقه فأكون شريكا فى ما يعمل بعد الموت. باختصار شديد كان عمر -وهو الخليفة المقدر لمعنى المسؤولية- مستهينًا بفكرة «حب السلطة» أو بمعنى أدق لم يكن محتاجا إليها. وفى كثير من الأحيان يكون من لا يحتاج إلى السلطة هو بالتحديد ذلك الشخص الذى تحتاج السلطة إليه. ولكن لأن الحق كثيرا ما يكون مُرًّا، فلم يصبر على عدل عمر وحكمه الكائدون والمتآمرون فسقوه السم ليتخلصوا منه. سقاه بنو أمية بعد أن وجدوه يتنكر لهم ويحرمهم من كل الاستثناءات والامتيازات، ويرد أموالهم إلى بيت المال بالقسطاس والعدل فمات وهو ابن تسع وثلاثين سنة ونصف، على أرجح الروايات. وكانت آخر كلماته «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُوَّا فى الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين».