اسمحوا لى بالعودة مرة أخرى خطوات قليلة إلى الوراء، لأنه وعلى ما يبدو أن وقفى من قبل منطقة الغربية لكرة القدم جاء كفاتحة خير، ولعل الآية الكريمة فى سورة البقرة التى تقول: وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ، قد انطبقت بشكل كامل على كل ما حدث معى بعد ذلك، لأنه كانت هناك ولأول مرة دورة تسمى دورة الأنشطة المتكاملة، وكان من المفترض أن تتم بالتبادل بين 4 محافظات، هى الغربيةودمياط والدقهلية والشرقية. ووقع الاختيار على مدينة رأس البر، لاستضافة الدورة الأولى لمحافظة دمياط، وتم اختيار منتخب من فرق محافظة الغربية للاشتراك فى هذه الدورة، وحدث أن اعتذر فريق غزل المحلة، لذلك تم الاعتماد على فرق طنطا وزيوت طنطا وقحافة وكفر الزيات، وتم اختيارى كحارس ثانٍ لهذا المنتخب مع حارس مرمى نادى طنطا فى هذا التوقيت ممدوح بسيونى، وكنت سعيدًا جدًّا بهذا الاختيار، لأنه اعتراف بكفاءتى، وأيضًا رحلة جميلة إلى رأس البر لقضاء أسبوعين هناك على الرغم من علمى بأننى سأكون الحارس الثانى، ولكن هى فى النهاية خطوة جيدة على الطريق، وكان مدرب الفريق الكابتن رضا سامى، وهو من أهم اللاعبين فى تاريخ طنطا، وبالمناسبة كان مسيحيًّا مثل صاحب الفضل الأول على شخصى الكابتن جورج بانوب، ومعه مدرب نادى قحافة الكابتن علِى مراد، ولم يكن هناك أى لاعب من زيوت طنطا سواى فقط، وكان هذا أيضًا مصدر سعادة لى وثقة من الجميع فى مستواى. المهم أننا سافرنا إلى رأس البر، وكالعادة اصطحبت معى شقيقى عصام الذى لم يكن يتركنى أبدًا، وبالعافية وافق المسؤولون على سفره معنا، وبدأنا التدريب والاستعداد لمباريات الدورة، وكان اللعب فيها بالكارنيه الخاص باتحاد الكرة، بالإضافة إلى البطاقة الشخصية، وتم التنبيه علينا بضرورة إحضار البطاقات الشخصية معنا، حتى كانت ليلة المباراة الأولى وكانت أمام منتخب الشرقية، وأتذكَّر أنه كان يحرس مرماهم عصام الحسينى، وهو كان حارسًا أيضًا لمرمى النادى الإسماعيلى وكان فريقًا قويًّا للغاية، لأن معظم لاعبيه كانوا يلعبون فى النادى الإسماعيلى، بالإضافة إلى نادى الشرقية الذى كان يلعب أيامها فى الدورى الممتاز. وكالعادة تحدث المفاجأة، فبعد أن أعلن الكابتن رضا سامى التشكيل، وأن ممدوح بسيونى سيحرس مرمى الفريق، إذا بمفاجأة كبيرة عندما اتضح أنه نسى إحضار البطاقة الشخصية، لذلك لم يكن أمام المدرب بد من اشتراكى أساسيًّا فى المباراة الأولى أمام الشرقية وتعاطف جميع اللاعبين معى، خصوصًا أنهم يعلمون أنها مباراة صعبة للغاية، وكانوا جميعًا خائفين، إلا أنا، فقد شعرت أن أبواب السماء تفتح لى، لأنها فرصة عظيمة لأننى لو لم أوافق لا توجد مشكلة، نظرًا للظروف الصعبة التى لعبت فيها، أما أن كتب الله لى التوفيق والنجاح فقد تكون فرصة جيدة، لكى يعرفنى الجميع، واجتمع بى الكابتن رضا سامى، وكان واضحًا، فقد قال لى إن الظروف هى التى أجبرته على إشراكى فى هذا اللقاء، وإن ممدوح سيلعب المباراة القادمة بعد إرسال مندوب لإحضار بطاقته الشخصية من طنطا، ولم أهتم، لأن المهم أننى سأشارك أساسيًّا فى اللقاء. ولكن للأمانة فقد فوجئت بالكابتن علِى مراد، وكان مدربًا لنادى قحافة، يجتمع بى على انفراد، ويؤكد أنه كان يتمنَّى أن أشارك من البداية، وأنها فرصة عظيمة ويجب أن أتمسّك بها، فشكرته وتوكلت على الله، ولعبنا المباراة وسط حضور رسمى وجماهيرى كبير، فقد كان هناك محافظو المحافظات الأربع، بالإضافة إلى كبار المسؤولين من القاهرةوالمحافظات وحضور جماهيرى كبير جدًّا، وبتوفيق من الله وحده لعبت واحدة من أجمل مبارياتى كما هى العادة فى المواقف الصعبة، حيث دائمًا وأبدًا كنت أشعر أننى محاط بتوفيق الله ودعاء الوالدين، وهى كلمة ودعوة حقيقية لا يستهان بها، ونجحنا فى تحقيق الفوز بهدف بضربة جزاء سجله لاعب كفر الزيات رمضان الضانى، وكنا نداعبه حيث إنه كان يساعد والده فى محل للجزارة، وكأنه كان اسمًا على مسمى، وكنا نقول له إن هدفه كان ضانى فى شباك الشرقية، واحتفلنا بالفوز ليلًا بالأغانى والفرح الشديد. وكنت أكثر الناس سعادة لعلمى أننى لن أشارك فى المباريات القادمة، ولكننى أثبت وجودى وبالفعل اجتمع معى الكابتن رضا سامى، وقال لى إن بطاقة ممدوح وصلت من طنطا، وإنه المرشح للعب فى المباراة القادمة، ولم أحزن على الإطلاق بل قلت له إننى تحت أمره فى أى وقت، وجاءت لحظة محاضرة المباراة فإذا بالكابتن رضا سامى يقول أمام جميع اللاعبين إنه كان من المقرر أن يلعب ممدوح، ولكن نظرًا للمستوى الذى ظهرت به، فإنه أصبح من حقّى أن أشارك أساسيًّا للمرة الثانية، فكدت أطير من الفرحة. وبالفعل لعبنا أمام فريق دمياط، وفزنا أيضًا 1/صفر، وحصلت على الثقة كاملة، ثم اختتمنا الدورة بتعادل مع المنصورة 1/1، مع أداء جيد للفريق كله، وفزنا بلقب الدورة وسط ذهول الجميع، وحصلت على جائزة أفضل حارس مرمى، وكانت أول جائزة فى حياتى، لذلك ما زال لها طعم خاص فى قلبى، وعدنا إلى طنطا ولعبنا مباراة المحلة الودية كما سبق وقلت فى الحلقة الماضية، وتفوقت فيها على نفسى ولم يمض وقت حتى وجدت الكابتن المعداوى مدرب المحلة، أمام منزلنا، طالبًا الاجتماع مع والدى، وبصراحة كدت أن أطير من الفرحة، فرغم حلمى الكبير باللعب للأهلى فإن اسم غزل المحلة فى هذا الوقت كان يدعو للإعجاب. واجتمع الكابتن المعداوى مع والدى فى مقر مديرية الشباب والرياضة بطنطا مع تزكية من كل المسؤولين هناك، إلا أن المفاجأة المدوية جاءت من والدى حيث رفض رفضًا باتًّا فكرة انتقالى إلى غزل المحلة، لأننى كنت على أعتاب الثانوية العامة، ورغم كل الإغراءات التى قدمها الكابتن المعداوى، فإن والدى رفض تمامًا، وقال له بالحرف الواحد ياخد الثانوية العامة وبعدين يلعب عندكوا، ولو ببلاش ، ورغم محاولات الجميع مع والدى فإنه تمسَّك بالرفض التام، وكالعادة سارعت إلى الكابتن جورج بانوب، والكابتن مصطفى عطا، فطيّبا من خاطرى، وقالا لى: الأيام تمر بسرعة، إنت ذاكر وانجح فى الثانوية وبعد كده مافيش مشكلة. وزاد الكابتن جورج بقوله: يمكن ربنا مخبيلك حاجة أحسن، واوعى تزعل، ولكنى فى الحقيقة زعلت وبشدة، ولكن لم يكن أمامى سوى الاستسلام والانصياع لرغبة والدى وبدأت فى الاستعداد للثانوية العامة رغمًا عنى وأملاً فى أن يغيّر والدى موقفه، إلا أن حدثت مفاجأة أخرى، فقد كنت مغرمًا بشراء مجلة الأهلى أسبوعيًّا، وكنت أوفر من مصروفى الشهرى لشرائها فى نهاية كل أسبوع وأحفظها من الجلدة للجلدة، كما يقولون، ولكنى فوجئت بصورة لزميل لى كان يلعب فى نادى قحافة، وكان منتظمًا معنا فى تدريبات منتخب الغربية، ولكنه لم يسافر معنا، وعندما سألنا عليه قالوا إنه ذهب للاختبار فى النادى الأهلى، ولم يصدق أحد، إحنا فين والأهلى فين. ولكن عندما وجدت صورته صرخت وقلت: دى صورة رمضان القللى، وكان الخبر أنه انضم حديثًا إلى صفوف فريق الأهلى تحت 17 سنة، وأن مدربه عمرو أبو المجد، سعيد جدًّا به، ويقول إنه رفعت الفناجيلى الجديد، ولم أنم ليلتها وذهبت أفتّش عن مكان وبيت رمضان القللى فى قفحاة، وهو حى تابع لطنطا، حتى وجدته، وهو بيت ريفى، لأن قحافة كانت قرية فى السابق، وكالعادة كان معى شقيقى عصام، وسألنا أُمه عن رمضان، فقالت إنه فى مصر ولا تعرف متى سيعود، فظللت لمدة عشرة أيام كاملة أتردد على منزله على أمل العثور عليه إلى أن قابلته فوجدته مرحبًا بشدة. وسألته عن الأهلى والخطيب وإكرامى والبطل ومصطفى عبده ومصطفى يونس وباقى النجوم، وهل تراهم وتتكلم معاهم، وكلام كتير وأنا فى حالة انبهار تام وذهول وغير مصدق أنه يقابلهم ويسلّم عليهم، وكدت أُصاب بالجنون من حكايات رمضان القللى، وبعد أن انتهى من الإجابة عن كل أسئلتى، قلت له: رمضان، أنا عايز ألعب فى الأهلى ممكن ولّا مستحيل؟ فكانت إجابته التى لا أنساها: طبعًا ممكن، والكابتن عمرو أبو المجد طيّب جدًّا وبيحبّنى جدًّا، وعلى فكرة إنت حظّك حلو، لأن الحارسين الأساسيين للفريق مش موجودين وبالتالى يمكن الكابتن عمرو أبو المجد يوافق إنه يشوفك، ودون أن أدرى قلت له: لأ، أنت تقول له عندنا حارس مرمى ممتاز يا رمضان، ووعدنى، وسألته: متى ستعود؟ فقال: بعد 15 يومًا، ورغم ذلك كنت أذهب كل يوم إليه وأسأل والدته: يا ترى رمضان رجع ولّا لأ؟ ومرت أيام طويلة جدًّا وأنا أحلم بعودة رمضان القللى إلى طنطا، ولكنه لم يعد وأصبت باليأس، وقلت إنه نسى أو إن المدرب بتاع مصر اللى اسمه عمرو أبو المجد، رفض الفكرة من الأساس، وقررت أن لا أسأل عنه مرة أخرى، وبالفعل لم أذهب إليه وذهبت للعب الكرة فى الشارع، وعدت إلى البيت، وأنا ملىء بالتراب وملابسى فى حالة يرثى لها، وفور دخولى المنزل إذا بأمى تقول لى: واحد اسمه رمضان القللى، سأل عليك، وبيقول لك عايز يشوفك النهارده ضرورى، لأنه مسافر بكرة مصر، ولم أصدّق نفسى، بل إننى لم أرد على أُمى، وفى أقل من 5 دقائق، كنت أمام رمضان القللى، وفى لهفة سألته: إيه اللى حصل يا رمضان، طمّنى، فضحك وقال: أنا قلت للكابتن عمرو كلامك والراجل ضحك، وطلب إنه يشوفك بكرة، فأخذت أحضنه وأقبّله بشكل هيستيرى، واتفقت معه على السفر، ولكنه قال لى: نتقابل الساعة الخامسة صباحًا أمام محطة القطار. وسارعت إلى البيت وأنا غير مصدق، وبسرعة جلست مع شقيقى عصام وحكيت له، ولكنه فوّقنى: حتمعل إيه مع أبوك؟ وأخذنا نفكر إلى أن هدانا الله إلى فكرة جهنمية، فقد استعنّا بأحد الأصدقاء الذى جاء إلى أبى، ونحن خارج البيت، وقال له: إن عندنا الدورة النهائية بعد فوزنا بدورة رأس البر، وإن لازم أكون عند محطة القطار الساعة ال5 صباحًا، للسفر، وبعد أن تأكدنا من بلع أبى الطعم، صعدت أنا وعصام إلى المنزل، لأفاجأ بأبى: جهّز نفسك إنت وعصام عشان السفر بكرة لمصر لاستكمال الدورة، ونظرت إلى عصام: يعنى إزاى؟ المهم إن عصام حل المشكلة بأن النهائيات فى القاهرة والأعداد محدودة، وبالتالى لا يمكن أن يصطحبنى، وصدّق أبى للمرة الثانية، ولكن كانت هناك مشكلة كبيرة، فالوقت متأخّر وليست لدىّ ملابس جيدة تليق بالنادى الأهلى، فتذكّرت صديقى العزيز الراحل فى نادى عمال طنطا محمود البمباوى، وكان من أكرم الناس إيمانًا بموهبتى، وكان عائدًا للتو من النمسا، ورأيته يرتدى تريننج أحمر رائعًا وحذاء كرة جميلًا، فذهبت إليه فى منزله وشرحت له الموقف، فما كان منه إلا أن أعطانى الحذاء والتريننج وتمنّى لى التوفيق، وشعرت أن الله يقف بجانبى، فالمشكلة الكبرى فى والدى تم حلها فى ثوانٍ، والملابس أصبحت معى، ثم إن والدى أعطانى جنيهين كاملين، خوفًا علىَّ من القاهرة، لأنها كانت أول مرة فعليًّا أزور فيها القاهرة، بعيدًا عن الفصل البايخ فى نادى الترسانة. وبالفعل فى تمام الخامسة ذهبت إلى محطة القطار وقابلت رمضان القللى، ولم أكن حتى أعرف أين شباك التذاكر وأين الرصيف ولا أدرى أى شىء، والحقيقة أننى سافرت على حساب القللى، وظللت طوال الطريق أسأله عن شكل الكابتن عمرو أبو المجد، وطريقته، وماذا يحب، ومستوى الحراس الموجودين، ومدى تعاونهم، وأشهر اللاعبين فى الفريق، وأتذكر أننا ركبنا وقوفًا فى القطار، ولم أهتم على الإطلاق، فقد كان هدفى أكبر بكثير من الوقوف أو الجلوس، فأنا فى طريقى إلى الجنة.. إلى النادى الأهلى. ولكن وبكل أسف، كانت فى انتظارنا أزمة كبيرة!