لم أكن سعيد الحظ بالانضمام إلى أى نادٍ، فالدائرة صغيرة جدًّا فى مدينة طنطا ولا أعرف، كما قلت، مكانًا سوى نادى طنطا، وكل أحلامنا كانت فى اللعب لنادى طنطا، لأننا لم نكن نعرف أين يوجد نادى زيوت طنطا، النادى الآخَر فى طنطا، ولكن بالصدفة البحتة كان لى زميل فى المدرسة اسمه السيد الريدى، وكان لاعب كرة قدم ممتازا وكان أيضًا زميلى فى مباريات الكرة الشراب، والحق أنه لم يأخذ حقَّه فى الملاعب، فهو لم يكن يقل فى موهبته عن أعظم نجوم كرة القدم فى مصر. بل إننى لا أبالغ لو قلت إنه كان أفضل من الكثيرين ممن لعبوا لمنتخب مصر وللأندية الكبرى فى مصر، المهم أننى فوجئت بالريدى وهو يطلب أن أُحضِّر نفسى يوم الجمعة لأنه عرف أن هناك ناديًا جديدًا يُدعى «عمال طنطا» يُدَرِّب مرة واحدة فى الأسبوع بالملعب الفرعى لاستاد طنطا، وأنه تكلَّم مع أحد المسؤولين هناك حتى ننضم إلى صفوف الفريق وكان معنا زميل آخر وصديق عزيز هو سعيد صبحى، وكدت أطير من الفرحة حيث إننى سأدخل استاد طنطا هذه المرة لاعبًا لا متفرجًا كما كان يحدث فى لقاءات الأهلى وزيوت طنطا، وهى المباراة السنوية التى سبق لى التحدُّث عنها من قبل. وبالفعل انتظرت بفارغ الصبر إلى يوم الجمعة صباحًا حيث كان موعد التدريب من الساعة العاشرة صباحًا حتى موعد أذان الجمعة، والمفاجأة أننى قدمت نفسى هذه المرة كلاعب لا كحارس مرمى، والسبب أننى لاحظت اهتمامهم الكبير واحترامهم للحارس الموجود وكان يسمى جمال، وكنا قد ذهبنا مبكرًا جدًّا أنا والريدى وسعيد ورأيت مكانة جمال، فقررت أن لا أكرر تجربة نادى طنطا مع الكابتن الغمرى وخضت بالفعل أول تدريب ولعبت مهاجمًا وسجلت هدف الفوز لفريقى، وأثنى على مستواى الجميع إلا السيد الريدى رفيقى وصديقى العزيز الذى وجدته غاضبًا وبشدة عقب انتهاء التدريب ولما سألته عن السبب قال إنه لم يحضرنى كى أكون لاعبًا فأنا خلقت لأصبح حارسًا للمرمى وأكد أنه سيطلب من المدرب إشراكى حارسًا للمرمى فى التدريب المقبل، ووافقه الرأى سعيد صبحى، إلا أننى رجوتهما أن لا يفعلا لأنى ما صدقت إنى أرتاح من الخناق مع والدى فهو سيسعد جدًّا عندما يعرف أننى انضممت إلى أحد الأندية، فوافقا ولكن بعد محاولات طويلة وعلى مضض، ولكن ظهرت لى بعد ذلك مشكلة أخرى، فقد اتضح أن التدريب بمقابل شهرى هو عشرة قروش، وأنا مصروفى الشهرى كله، وذلك عام «75-76» لا يتخطَّى خمسة وعشرين قرشًا، أى ربع جنيه، فكيف أقتطع منه نحو نصفه بالإضافة إلى المواصلات إلى استاد طنطا، حيث كانت تذكرة الأوتوبيس بنحو قرشين صاغ، يعنى 4 صاغ فى كل تدريب. إذن المصروف كله سيضيع على التدريب، وبعد أن كنت أكسب من الدورات الرمضانية فى مباريات الكرة الشراب والتى صمم والدى على امتناعى عنها، خصوصًا أننى الآن أصبحت لاعبًا فى أحد الأندية سأصرف عليها، ولكن كالعادة كل عقدة ولها ألف حلال، فقررت أن أذهب إلى استاد طنطا سيرًا على الأقدام فى مسافة تقترب من ثلاثة كيلومترات وأقنعنا أنفسنا، نحن الثلاثة، أنا وسيد الريدى وسعيد صبحى، أنها تسخين قبل التدريب، وكنا نستمتع بالحوار طوال الطريق، فلن نكن نشعر به على الإطلاق، ويتم توفير على الأقل ثمن المواصلات ثم اتفقنا مع المدرب على أن اشتراك الثلاثة باتنين بس، والغريب أنه وافق دون تردد فتم توفير مبلغ آخر. وبدأنا ننتظم فى تدريبات عمال طنطا ولكن المفاجأة لحضراتكم أنه لم يكن يوجد شىء اسمه نادى عمال طنطا، بل الحكاية كلها أنهم مجموعة من العمال والصنايعية لذلك أطلقوا على أنفسهم اسم عمال طنطا يجمعون فى ما بينهم إيجار الملعب باستاد طنطا بالملعب الفرعى السيئ جدًّا جدًّا، ويدفعونه مقابل أن يتم السماح لهم بالتدريب مرة واحدة أسبوعيًّا لمدة ساعتين، وأطلقوا على أنفسهم العمال لأنهم بالفعل كانوا جميعًا عمالًا وكان معظمهم يعمل فى الأثاث ومن منطقة واحدة تقريبًا هى شارع عبد الحليم بطنطا، ولكن أنا وسعيد والريدى أول طلبة ندخل هذا النادى، المهم أن كل هذا لم يغضبنا لأننا كنا نتدرب فى الاستاد وهذا كان حلمًا كبيرًا بالنسبة إلينا. والطريف أن الفريق لم يكن له مدرب بل كان عم مصطفى العطار، وكان يعمل فى الأدوات الصحية وكان يمتلك الكرة فتم تعيينه مدربًا وطبعًا لاعبًا فى نفس الوقت وكان البعض ينتظره تحت منزله ضمانًا لحضوره والتدريب، لأنه صاحب الكرة الوحيدة ومن دونه لا يمكن أن نتدرب وهو كان من سعداء الحظ حيث كان يمتلك عجلة وكنا نحسده جميعًا عليها والأغرب فى هذا النادى أن رئيسه أيضًا كان لاعبًا معنا وهو عبد المنعم الشرقاوى وكان صاحب ورشة لصناعة الأثاث والأويميا، وهى فن تجميل الأثاث، أى أويمجى، وكنا نقضى السهرة كل يوم خميس معه فى الورشة تستمتع بقصص وروايات ونحلم جميعًا بأن نصبح لاعبين مشهورين، وللأمانة فقد كان الرجل دائمًا يعاملنا نحن الثلاثى أفضل معاملة ويطلب منا أن نستكمل دراستنا وأن نحاول أن نبحث عن أندية خارج طنطا لأنه يرى أننا أصحاب موهبة وكنا نستمع إليه ونحكى جميعًا ونحن فى طريق العودة ماذا قال لنا بالفخر وأذكر أننى فى إحدى المرات قلت للريدى: وهل من الممكن أن أصبح لاعبًا فى فريق كبير؟ ففاجأنى بقوله: طبعًا بس بشرط أن تعود لمركز حراسة المرمى، وأنا أضمن لك مثلًا أن تصبح حارسًا لغزل المحلة.. وطبعًا قبلها بعام واحد كان فريق غزل المحلة هو بطل الدورى العام فى مصر والمعروف أن المحلة لا تبعد سوى خمسة عشر كيلومترًا عن طنطا ووقتها تخيّلت نفسى بجوار عمر عبد الله وعماشة والسياجى وعبد الرحيم خليل والسيد عبد الجواد وغيرهم من نجوم غزل المحلة الكبار، إلا أننى صحوت فجأة وأنا أقول له: وليه مش الأهلى؟ فأجاب: الأهلى طبعًا، بس أنا شايف إن المحلة قريبة وأن سهل إنك تلعب فيها، وكانت حواراتنا وأحلامنا كبيرة فقد تستمتع بمتعة التخيل وهى متعة لا يعرفها إلا من عاشها فأجمل شىء هو أن تحلم وتتخيل والأعظم هو أن تحقق هذا الحلم. المهم استمررت نحو شهرين كاملين كلاعب فى فريق عمال طنطا وأصبحنا أسرة واحدة جميعًا ولم يكن ينغص علينا سوى موعد دفع الاشتراك الشهرى العشرة صاغ، ومع ذلك كنا نجد تفاهمًا كبيرًا من المسؤولين فى الفريق، لأنهم يعرفون أننا طلبة يعنى مش كسيبة زى الصنايعية فكانوا يعاملوننا معاملة خاصة بالإضافة إلى أننا كنا على مستوى فنى جيد، فكنا إضافة جيدة للفريق وسارت بشكل أكثر من رائع، إلى أن حدثت المفاجأة، ففى أحد التدريبات غاب الحارس جمال ولم نجد أحدًا يحرس المرمى وكاد المران يتوقف وهنا صرخ السيد الريدى فى عم مصطفى العطار، قائلًا له «خلّى شوبير يقف جون»، وعبثًا حاولت أن أثنيه وطلبت منه التوقف، إلا أن حظى أن المدرب سمعه وقال لى بتعرف تقف جون، فقلت: شوية، فقال: ماعلهش النهارده بس على ما جمال يرجع تانى، وكانت أول مرة فى حياتى أقف فى الجون الكبير الذى وجدته شارعًا بالفعل، فأنا متميز فى الكرة الشراب وهى عبارة عن مرمى أربع خطوات وطوبتين، ولكن عارضة وقائمان وطول وعرض كانت مفاجأة قد تصل إلى حد الصدمة أن أقف فى المرمى وشعرت بالفعل أننى كالغريق فى البحر فكل أحلامى أصبحت كوابيس فالمرمى واسع جدًّا وأنا صغير الحجم وقصير لدرجة ما والأمر بدا لى فى غاية الصعوبة وبالفعل اعتذرت بعد وقوفى بدقائق للكابتن مصطفى العطار، إلا أن سيد الريدى صمم على وقوفى وقال له لا تسمع كلامه يا كابتن ده أحسن جون فى طنطا وخليه يكمل التدريب، ولأول مرة يشخط فى كابتن مصطفى والحاج عبد المنعم، وطالبانى إما بالوقوف حارسًا للمرمى أو أن أمشى ولا أحضر مرة ثانية أبدًا لو رفضت طلبهما ووقفت حارسًا للمرمى لأول مرة فى حياتى وأنا عازمًا أن تكون الأولى والأخيرة إلا أنه يبدو أن الله كتب لى هذه الخطوة الأولى، لتصبح عنوانًا رئيسيًّا فى حياتى لخطوات أخرى حلمت بها ولم أكن أتصور أو أحلم أبدًا بتحقيقها أبدًا.