لماذا نسينا النكسة؟ لأول مرة منذ 45 عاما لم تكن هزيمة يونيو 1967 حاضرة كما كانت منذ تلك الظهيرة الساخنة وحرب الأيام الستة التى سُميت تخفيفا أو نفاقا «نكسة»، لكنها كنت هزيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ثقيل ومؤلم وقاس. الهزيمة تم تجاوزها عسكريا بحرب، كان عنوانها العسكرى والشعبى «تحرير» سيناء، وعنوانها السياسى «تحريك» القضية التى كانت تصلبت عند مرحلة «اللا سلم واللا حرب». لكن المجتمع لم يتجاوز الهزيمة. ظلت معلقة، تأثيرها أقوى ومذاقها لم يمحُه نصر أكتوبر. ومنذ خمس سنوات، أى فى الذكرى الأربعين للهزيمة سألت: لماذا تأثير الهزيمة أقوى من النصر؟ هل عرفت مصر لماذا هُزمت؟ هل عرفت من المسؤول عن هزيمة 76؟ عبد الحكيم عامر؟ عبد الناصر؟ أم أنه النظام كله؟ السؤال كان حاضرا رغم النصر. بل إن هزيمة يونيو حاضرة رغم قدرة الجيش المصرى على تجاوز آثار الهزيمة العسكرية. هل انتصر الجيش على الجبهة واستمرت هزيمة المجتمع؟ ربما أدرك قادة الحرب دروس العبور من الهزيمة إلى النصر، لكن كيف كان انعكاس النصر فى المجتمع؟ هل سرق؟ هل استفاد المجتمع من النصر شيئا سوى الأغانى؟ الأغانى هى حبوب منشطة لقوى مكسورة.. منهكة.. عاجزة. هل كنا نغنى للنصر، بينما الهزيمة تأكل أرواحنا وتشل حركتنا؟ لماذا بعد أكثر من 39 سنة من النصر ما زالت الهزيمة ساخنة طازجة؟ هى المسؤولة عن كل شىء: ارتفاع الأسعار والديكتاتورية، توحش التطرف الدينى، الفتنة الطائفية، وحتى العجز الجنسى. لماذا لم يمنح النصر قوة للمجتمع الذى انتصر؟ حتى اليوم لم تهتم جهة بإعلان المسؤولية عن الهزيمة، حامت التهمة على شلة الحكم وقتها. لكن لم يملك أحد الشجاعة لإعلان المسؤول ومحاسبته. حاول عبد الناصر إعلان المسؤولية بشكل فردى، وعلى طريقة الفرسان، لكن الشعب تعامل بشكل عاطفى وخرج فى مظاهرات التنحى تطالبه بالاستمرار. كان المشهد عاطفيا: قائد مهزوم يعلن أنه مسؤول. وحشود شعبية تخرج لتمسح العار عن زعيمها. يسيطر عليها إحساس اليُتم. والتعاطف مع أب فى لحظة ضعف. أين الدولة؟ وماذا تفعل مؤسساتها؟ ألم تكن هناك قيم أكثر تأثيرا من هذه المشاهد الأقرب إلى البدائية؟ الغريب أن إنجاز أكتوبر الأساسى هو شحن حيوية الدولة المهزومة. خرجت الدولة قوية. الرئيس السادات عاد بطلا عسكريا. وصاحب معجزات. لكنه أعلن فجأة، ورغم النصر فإن99 ٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا. واعتُبرت هذه الجملة هى حجر الأساس فى واقعية سياسية جديدة تُنهى زمن الشعارات الرنانة. لكن غالبا واقعية السادات لم تتحرك خطوات أبعد من عاطفية عبد الناصر. دولة الاستبداد استمرت. الفارق الوحيد أنه بعدما كان المستبد عادلا تخلى عن العدل، وترك المجتمع غابةً، الانتصار فيها للأقوى. جمهورية الخوف استمرت. وهذه كانت أساس الهزيمة. منع الخوف الناس من محاسبة المسؤول عن الهزيمة. ومنعهم من مواجهة قائد الانتصار، وهو يقتله قبل أن يتحول إلى روح جديدة تغير الدولة. وتصلح شرخ الهزيمة. هزمتْنا جمهورية الخوف قبل أن تهزمنا إسرائيل. هذه الفكرة تستحق البحث الآن وبقوة. أجهزة الاستبداد حولت الحياة إلى رعب دائم، وتحالفت تماما مع وحوش الفساد، لتعود الدولة كلها إلى الوراء. الدولة التى ارتبطت بحلم مغامرين (من محمد على إلى جمال عبد الناصر) ظلت أسيرة المغامرة ولم تتحول إلى حقيقة تعبر عنها مؤسسات فوق الجميع. إسرائيل كانت حلم «عصابات» صغيرة مشرَّدة فى العالم كله، لكنها أدركت أنها لن تستمر.. وتبقى فى محيط سيظل يعاديها ويكرهها.. ويتعامل معها على أنها «كيان غير طبيعى».. أدركت أنها لا بد أن تكون دولة مؤسسات، لا أحد فيها فوق القانون ولا المصلحة. لم نتعلم الدرس. ولم نحارب العدو بأسلحته. وتركنا الحلم يتسرب بطريقة مثيرة للدهشة. نكتفى بالبكاء.. وحفلات لطم الخدود، والشعور المتضخم بأن الهزيمة قدر، لا يمكن الإفلات منه. لم نكن نتوقع سوى الهزائم. وإسرائيل المرعوبة والخائفة كانت ترعبنا وتخيفنا بشكل لم يستدع التفكير، لكنه استدعى التواطؤ معها ضد مصلحتنا، والاكتفاء بلعنتها فى السر. أمس نسينا النكسة والهزيمة. أمس كنا فى مزاج الثورة، المشحون بالأمل أحيانا والإحبط أحيانا.. لكن المجتمع خرج من غيبوبة طويلة.. وقرر أن يغير مجرى التاريخ ويهرب من أقدار الهزيمة، المجتمع قرر أن يملك قوة يحاسب بها «لصوص الدولة» وطبقة الحكم الناهبة، قرر المجتمع استرداد موقعه فى هندسة الدولة، لتكون دولة، لا عزبة مملوكية. ورغم كل الارتباك والمتاهات والآلام والمآسى فليس قليلا أن ننسى أمس طعم النكسة.