كعادتنا عند كل موقف.. نترك الأصول الواضحة وننشغل بالفروع.. هزمت الجزائر مصر، فلعنا حسن شحاتة والمنتخب.. وبعد أيام قليلة، أرهقت مصر البرازيل صاحبة أكبر مدارس الكرة، وانتصرنا على إيطاليا بطل العالم، فأصبح حسن شحاتة ولاعبو المنتخب الأبطال الذين لايشق لهم غبار والأفضل عالميا، ثم هزمت أمريكا نفس المنتخب المصرى بعد 3 أيام فقط، فعدنا نلعن شحاتة ومن معه. والهزيمة ليست عيبا، المهم أن نستفيد منها حتى نتحول بعدها للنصر.. لكن بعد المباراة الأخيرة بساعة، وفى غمرة الحزن العارم من الهزيمة أمام أمريكا، تركنا الأداء الهزيل للمنتخب، وبدلا من تحليل النتائج بشكل علمى ومنهجى، تحول المجتمع كله للكلام عن فضيحة أخلاقية روجتها بعض صحف جنوب أفريقيا للمنتخب، وأصبحت هذه القصة الملفقة هى الحدث وليست الهزيمة نفسها، رغم أن البعض روجها باعتبارها سببا للهزيمة.. وتعاملنا، إعلاما وجمهورا، مع الحدث بطريقة مصرية فريدة، ونسينا أننا أنفسنا كنا نبالغ فى وصف إنجاز هذا المنتخب بدرجة لا تتفق مع العقل، وكنا من الحماقة لدرجة أننا لم نسأل أنفسنا، هل لو كان الفريق المصرى انتصر على أمريكا، كانت تلك الفضيحة الأخلاقية - حتى لو صحت - ستطرح إعلاميا وجماهيريا أم أنها ستغتفر وتضيع؟.. المهم أن هذه الواقعة خلقت حالة من التعاطف الجماهيرى مع المنتخب الخاسر، وهو ما ظهر فى استقبالهم فى المطار كأبطال حققوا انتصارا كبيرا، ولم يعد منا من يذكر أن إخفاقا منهم أخرجنا من البطولة.. هذا المنطق الغريب فى التعامل المصرى ليس مقصورا على الكرة، ولكنه سمة عامة فى كل المجالات، فالمسؤول إذا أخطأ أصبح فاسدا وملعونا وخائنا وعميلا فى نظر الكل، وإذا أصلح أصبح ملهما وقديسا ومتميزا وبارعا فى نظر الكل أيضا.. فلا نفكر بعمق فى أى شىء، ولا ندرس التفاصيل، وبالتالى لا نخرج بدروس مستفادة ولا نتعلم من أخطائنا، ونكررها بنفس تفاصيلها دون خجل. كنت أتوقع أن يخرج علينا محللون عاقلون راشدون بعد مباراة مصر وإيطاليا مثلا ليوضحوا لنا كيف حقق الفريق المصرى تلك المعجزة الكروية غير المتوقعة بينما منى هو نفسه بهزيمة ساحقة قبل ذلك بأيام من فريق عادى مثل الجزائر.. ولكن الحديث عندنا بالقطعة، وليس تحليلا شاملا متكاملا.. فاكتفينا بسب الفريق بعد خسارته من الجزائر، كما اكتفينا بحمل الأعلام وتعليق الزينات وإقامة الأفراح بعد فوزه على إيطاليا.. بل إننى سمعت ناقدا رياضيا كبيرا يتحدث فى الإذاعة قبل مباراة مصر وأمريكا بساعة ساخرا من اسم أحد لاعبى أمريكا، وقائلا ان 10 منه لايحركون شعرة فى أحمد فتحى لاعب المنتخب المصرى!! وامثال هذا الناقد العاطفى كثيرون للغاية فى مصر، وهؤلاء سبب كل أزمة فى كل موقع.. فتجد مثله فى السياسية، وفى الصحافة، وفى الإعلام، وفى الثقافة، وفى الفن.. وهؤلاء لديهم القدرة على تعبئة الرأى العام أكثر من اللازم، أو صرف هذا الرأى العام نفسه عن حدث كبير فى اتجاه أمور تافهة.. فحينما انتكس الفريق المصرى أمام أمريكا، كان الجميع قد نصب المشانق، وأصبح الكل يزايد بعيدا عن الموضوع الرئيسى وهو أسباب فشل الفريق المصرى، وفرضوا علينا الانزلاق للخوض فى أعراض لاعبى هذا الفريق. أنا لست شخصية كروية ولا أتابع الكرة كثيرا.. ولكننى أميل دائما للتفكير فى غرائب المجتمع المصرى ككل، والتى ظهرت فى مناسبة كروية.. وماكنت أبحث عنه أن يتحدث فينا شخص فاهم وواع ومدرك ليحلل لنا الشخصية المصرية، ويحاول أن يربط لنا الأمور ببعضها، ويسعى للبحث بمنهج علمى سليم عن الأسباب التى أدت بفريق واحد أن يخسر من فريق عادى جدا، ثم يقاتل أمام واحد من أقوى الفرق ليرهقه رغم الهزيمة، ثم ينتصر على بطل العالم، ثم يعود بعد أيام ليهزم بعنف أمام فريق أقل من كل هذه الفرق؟ كيف يكون لدينا القدرة على الإنجاز والهدم بنفس القدر وبنفس الأشخاص وفى نفس الوقت؟ هل يقبل أحد التفسير بأن الانتصار على بطل العالم كان مصادفة؟ وإن لم يكن فلماذا كان الإخفاق أمام أمريكا؟ القضية هنا ليست مجرد مباراة كرة قدم وخسرناها أو كسبناها، وإلا نكون سطحيين لأقصى درجة.. ولكن مايجب أن نبحث فيه هو محاولة لفهم هذه التركيبة النادرة الغريبة المسماة بالشخصية المصرية، وهى تركيبة مليئة بالمتناقضات.. فلا أتصور مثلا كيف تنتصر مصر فى حرب أكتوبر 1973 رغم كل التقارير والتوقعات التى أكدت استحالة مجرد التفكير فى المواجهة قبل الحرب فأذهلت العالم كله، ثم نستكين ونهدأ على المستوى الداخلى رغم كل المشاكل والهزائم والنكسات التى صادفتنا طوال 36 سنة بعد هذا التاريخ؟ سنكون مخطئين فى حق أنفسنا ما لم نستغل هذة الفرصة التاريخية للبحث فى عيوبنا.. فلو انجرفنا لرغبات البعض خوضا فى أعراض لاعبينا وسمعتهم الأخلاقية دون التفكير فى أسباب هزيمتهم الحقيقية لن يكون لدينا انتصار أبدا.. وسنكون مخطئين أيضا لو بالغنا فى مجاملة الفريق باعتبارهم أدخلوا الفرحة لقلوب المصريين العطشى للنصر خلال مباراتى البرازيل وإيطاليا.. فلو تركنا كل أمورنا للعواطف القابلة للعبث بها من فلان أو علان، فلن نر انتصارا حقيقيا كاملا فى أى مجال، ولن نتغير، ولن ينصلح حالنا أبدا، وسنظل مجرد كرة تحت أرجل كل من يريد أن يقذفها، وفى الاتجاه الذى يريده. [email protected]