وهكذا، حين جاء يناير 2017 كنت قد صرت وحيدا، وفقدت المرأة الوحيدة التى أحببتها فعلا منذ داومينج. راحت نور. لم تعُد تنظر إلىّ. راحت العينان العميقتان اللتان تُشِعَّان حنانا وفهما. راحت النظرة التى كانت تلفّنى فتغمرنى بالدفء وتشبع فراغا فى رُوحى. راحت المرأة التى كانت تفوح أنوثة حيث حلّت وتترك ملمسها على مسامّى حتى تلقانى مجددا. راحت اليدان اللتان توصلان براحتيهما ما فى نفس صاحبتهما حين تلمسان يدى وسط جمهورها بالمسرح. راحت، لأنى ضيّعتها. صحيح أنها هى التى تركتنى، لكن الحقيقة أنى أنا الذى ضيّعتها، مثلما ضيّعت داومينج خمسة وعشرين عاما قبلها، لأنى لم أقوَ على مواجهة نفسى. أسوأ شىء أن تكون جبانا وتتظاهر بالرجولة؛ إن علمت فى نفسك الجبن، فعل الأقل لا تتظاهر بغير ذلك فتجرح من حولك بلا داعٍ. الشىء الوحيد الجيّد فى قصتى مع نور أنها رفضت لعب دور المرأة البلهاء؛ رأت سلبيتى وفهمتها سريعًا، فلم تنتظر حتى أحطّمها مثلما حطمت مَن قبلها. والشىء الوحيد الذى لم أفهمه حتى هذه اللحظة هو كيف استطاعت تلك المرأة أن تحبنى رغم ما رأت فى! تركت نور ترحل وعدت إلى الحياة المملة الضيقة التى اعتدت حبس نفسى فيها، من مقر الرئاسة ومناوراتها، إلى الأوقات القصيرة التى أقضيها مع خديجة وأبنائها، أو محادثاتى الطويلة مع صفية ومحادثاتنا الطويلة أنت وأنا التى نضيّع معظمها فى الصمت. تسلمت خديجة عملها بالمركز الثقافى الإيطالى، وهو عمل يُدِرّ عليها دخلا محدودا لكنه مفيد لها، إذ يخرجها من البيت ويفتح لها قنوات لتتعرف إلى الناس وتندمج فى الحياة بمصر. تكفلتُ ببقية مصاريفها هى ولارا وتمارا وزياد الذين انطلقوا فى القاهرة. وتكفل عبده بمساعدتهم كلما احتاجوا إلى شىء. لم أقوَ على الذهاب لرؤية ميرفت أو حسن، لكن عبده واظب على الاطمئنان عليهما. وهكذا، تقلصت حياتى الشخصية والاجتماعية إلى أقصى حد، وألقيت بنفسى فى العمل كى أشغلها عن التفكير فى ما يقضّ مضجعها. وكانت هذه هى الفترة التى اقتربت فيها من عزالدين أكثر من أى وقت مضى، حتى أشركنى فى خططه وتفاصيلها، قبل أن نتباعد ويحدث ما حدث بعد ذلك. أحيانا أفكّر أنى تركت نور ترحل لأنى أردت ذلك، لأنى أردت تجربة الانغماس فى السياسة حتى أقصى حد. كان مشروع عزالدين ملهما، ورأيت فيه إمكانية تكاد تُلمَس باليد لتحقيق أحلام طالما راودتنى وإن لم أفصح عنها. هذه هى الفرصة، إن كان هناك فرصة، لتحقيق العدل بين الناس ولنهضة المجتمع والدولة. ماذا تريد أفضل من هذا، إن كنت قد حلمت يوما مثل كل الشباب بعالم سعيد، لا يُطحن فيه الفقير أو الضعيف، بل يجد له نصيرا يساعده كى يقف على قدميه ويأخذ حقه؟ ماذا تريد أفضل من حاكم قلبه مع الضعفاء لكنه ليس ضعيفا، حاكم يسخّر المكر والقسوة وأدوات القوة لخدمة الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية؟ وفوق كل هذا، حاكم لا يفعل ذلك لمجد شخصى أو سلطة، بل يبنى قوته على مشاركة أجيال متعددة من الشباب تتأهل لتولِّى القيادة؟ بدا الأمر كأنه تحقيق لأحلام الصبا والشباب، وكان من المستحيل على شخص مثلى قضى عمره كله فى كواليس سلطة غاشمة أو غبية أو الاثنتين معا أن ينسحب فى نفس اللحظة التى بدأ فيها هذا الحلم يتحقق. ولم أرَ فى قتلَى حرب الطماطم غير أعداء هذا الحلم الذين يحاولون إجهاضه. وحين بدأ تنفيذ أحكام الإعدام فى أقطاب النظام السابق شعرت بالأسى لمصيرهم، لكنه أسى على ما لا يمكن تجنُّبه. بل إنى شعرت بظلم لعزالدين ولأنصار الثورة، كأن أقطاب النظام القديم لم يكفِهم تدمير الدولة والمجتمع عبر ستة عقود من التخلف، بل يسعون لتلويث أيدينا بدمائهم حين يذهبون، لأنهم يأبَون التنحِّى فى هدوء. هم الذين قاتلوا الثورة، ولم ينقضَّ عليهم أنصار الثورة إلا بعد خمس سنوات كاملة من التردد ومحاولة البحث عن طرق أخرى. هم الذين كتبوا علينا هذا المصير، نحن السلميون، وهم الدمويون، حتى إن كانت رؤوسهم هى التى تتدلى على المشانق. هكذا قلت لنفسى، وهكذا قلنا جميعا لأنفسنا. وبعدها ارتاح ضميرنا، ولم يعُد عدد الرؤوس يقلقنا كثيرا. وكلما زاد الضحايا زاد تمسُّكنا بإنجاز مشروعنا وبعدالة موقفنا، وأصبح التراجع مستحيلا أكثر. وهكذا، خطوة خطوة، دخلنا بأقدامنا فى نهر الدم ثم سبحنا فيه. أسفرت الانتخابات المحلية عن فوز الديمقراطيين بنحو أربعين فى المئة من المقاعد، وحاز الإخوان والسلفيون معا على خمسين فى المئة، وتوزعت العشرة فى المئة المتبقية على مستقلين محليين. لم تفُز أحزاب اليسار بمقعد واحد فى أى مجلس محلى، ولم يفاجئ هذا الأمر أحدا من العالِمين ببواطن الأمور، فلم يكن للأحزاب اليسارية -على كثرتها- وجود على الأرض أو كوادر تعمل على مواجهة مشكلات الناس فى القرى والأحياء، ومن ثم حين جاءت الانتخابات صوّت الناس لمن يعرفونهم. لكن «صفر المحليات» هذا شكّل فضيحة لمحمود بشير والقوى التى تدعمه وظل يلاحقهم وسهّل عملية القضاء عليهم حين حانت لحظة المواجهة الأخيرة. كتب كثيرون عن نظام الرعب الذى قاده عزالدين، مستعينا بالحرس الحديدى وبمحكمة الثورة سيئة السمعة، والدم الذى سال من آلاف الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمنا لهذه المرحلة. ولن أكرر عليك تفاصيل هذه المرحلة، لكنى سأشرح لك ما أعتقد أن المحللين قد أغفلوه، وهو الأسباب والظروف التى قادت عزالدين فكرى إلى فعل كل ذلك. ليس هذا دفاعا عنه، ولكن كى تفهم القيود التى تأتى مع العمل بالسياسة ومع البشر، وتختار، حين تختار حياتك، طريقك على بيّنة. أقص عليك قصة العذاب هذه، لا لكى أسدّ الأبواب فى وجهك، بل على العكس، لكى أريك طريق الخروج. فلا تستسلم لليأس، أو تضيع فى التفاصيل الدامية، بل خذ خطوة إلى الخلف، وانظر إلى ما خلف التفاصيل، واصبر قليلا حتى أنهى رسالتى. بعد ظهور نتائج الانتخابات المحلية، وبالتزامن مع تنفيذ أحكام الإعدام، بدأ الإعداد لانتخاب الجمعية التأسيسية. نجح عزالدين الذى تحالف مع الإخوان فى فرض نظام انتخابى يتبع الخريطة السكانية، فانتخبت كل محافظة عددا من النساء والرجال، المسلمين والأقباط، من مختلف المهن، بنسب مقاربة لتمثيل هؤلاء بالمحافظة. ولم يختلف الانتماء السياسى للفائزين كثيرا عن نتائج الانتخابات المحلية. ومن ثم قام اليساريون -بدعم غير معلن من محمود بشير- بالتظاهر والاحتجاج مطالبين بتمثيل أفضل لهم. إلا أن الجميع تجاهلهم حتى خفتت حدة احتجاجاتهم واقتصرت على وسائل الإعلام. المشكلة الحقيقية بدأت داخل اللجنة التأسيسية نفسها مع طرح القضايا الدستورية حيث تَبنَّى السلفيون مواقف تتنافى تماما ومبادئ الدولة الحديثة. واحتدم الخلاف بينهم وبين بقية الكتل السياسية، وبدا أن مصير هذه اللجنة لن يختلف عن سابقاتها. جلست ذات مساء فى نهاية صيف 2016 مع عزالدين نتداول فى الأمر. ووجدته مترددا، قال إن ثمن تحقيق أهداف الثورة يتزايد، وقد قبِل ضميره تحمُّل هذا الثمن فى حياته وبعد مماته. لكنه أصبح يخشى من ضياع كل ذلك هباء بسبب قِصَر نظر ومصالح السلفيين واليساريين والعسكريين وموظفى الدولة. ضحكت وقلت له إن هذه أغلبية، فنظر إلىّ مطولا وردّ بجدية تامة بأن هذه هى المشكلة، وأنه يستحيل عليه مواجهة الأربعة معا. لم يرَ فرقا بين السلفيين والطالبان؛ كلاهما ضحية لتعليم فاسد ومضلَّل وغائب، لكن السلفية لا تتطور بالحوار ولا بالتعليم، لأنها تضخمت وتحولت إلى سلطة فكرية مغلقة لا تراجع نفسها ولا تستمع إلى نقد من خارجها. ومن ثم فإنه إن آجلا أو عاجلا سيقاتل السلفيون الباقين إن لم يستجيبوا لرؤيتهم الرجعية للمجتمع. أما اليساريون فكان يقول عنهم أنهم «سلفيُّو الحداثة»؛ لا يختلفون عن السلفيين إلا فى استبدالهم الاشتراكية بالدين. وبالنسبة إلى العسكريين، لم يكن لدى عزالدين أى رغبة فى السيطرة على شؤون الجيش كما زعم اللواء القطان فى ما بعد. كل ما كان يسعى إليه هو تقليص سيطرة العسكريين على الأمور المدنية، من الإعلام إلى القضاء إلى الحياة الاقتصادية. وهى نفس المشكلة التى كان يواجهها مع بيروقراطية الدولة المتحصنة خلف ترسانة من اللوائح والإجراءات غير المفهومة لأحد سواها، والتى استغلها كبار العاملين بالدولة لوقف برامج الإصلاح وإعادة الهيكلة التى بدأ رئيس الوزراء يطرحها. فى هذه الليلة وجدت عزالدين أكثر صلابة وحدة من أى وقت رأيته فيه. وحين حاولت التسرية عنه ببعض السخرية من الموقف نظر إلىّ بصرامة فتوقفت عن المحاولة. سألته ليلتها كيف سيواجه ذلك فكرّر أنه لا أحد يستطيع مواجهة الأربعة معا، وفى نفس الوقت لا بد من مواجهتهم إن قُدّر للثورة تحقيق أهدافها أو لمصر أن تنهض. كان غاضبا فى هذه الليلة، وقال لى إن كل ما حققه حتى الآن لا يتجاوز العودة إلى الأحوال التى سادت قبل الثورة. هل هذا هو ما مات الناس من أجله؟ هل هذا ما أضاع الناس سنوات عمرهم لتحقيقه؟ أين النهضة التى أردناها لأنفسنا وبلدنا؟ أين الحريات التى قُتل الناس من أجلها؟ وأين العدالة الاجتماعية بعد ست سنوات من الثورة وعدم الاستقرار؟ سألنى عزالدين، وهو ينظر إلىّ بتركيز شديد حتى خِلت أن مقلتيه توجّهان سهاما لا نظرات؛ هل قتلنا هذه الآلاف كى نستقرّ على كرسى الحكم بدلا منهم أم كى ننهض بالناس ونُقِيم العدل بينهم؟ كان متأكدا أن المهادنة أو المنهج المتدرج طويل المدى لن تؤدِّى إلى شىء. فالمحاولات التدريجية للإصلاح لن تأتى بثمار تكفى الجميع، وستتفاقم المشكلات الأصلية وتبتلع كل تقدم. مصر، كما وصفها لى عزالدين فى تلك الليلة، مثل مركب يحمل صناديق يفوق وزنها حمولته القصوى، ويحاول الإبحار ببطء على أمل تفادى الغرق، كأن المياه لن تنتبه لحمولته الزائدة بسبب بطئه. لا يمكن لهذا المركب النجاة من الغرق، أو الوصول إلى الميناء المنشود، إلا بالتخلص من حمولته الزائدة. المشكلة، كما قال عزالدين، أن كلا من السلفيين وموظفى الدولة واليساريين والعسكريين يجلس فوق جزء من هذه الصناديق، وهو لا يستطيع التخلص من الأربعة فى نفس الوقت، فبمن يبدأ؟ ع.ش.فشير