سألتُ عزالدين إن كان يريد منى الانتقال للعمل معه بمجلس الوزراء لمساعدته بدلا من عملى فى المجلس الرئاسى الفارغ، فابتسم وقال لى إنه يحتاج إلىّ أكثر فى موقعى هذا. لم أفهم وقتها، وظننت أنه يريد مساندتى لضمان تحرك المجلس حين يتطلب الأمر. لم أفهم إلا بعدها بسنة كاملة. تحرك عزالدين بأسرع مما تَوقّع الجميع، بمن فيهم أنا. تولى عزالدين رئاسة الوزراء فى الخامس من يناير، وبعدها بعشرة أيام قدّم لمجلس الوزراء مشروع قانون محكمة الثورة الذى تَضمَّن محاسبة كل من شارك فى، أو حرَّض على، أو سهّل، ثلاث جرائم أساسية: الفساد المالى، وإهدار الحقوق الأساسية للمواطنين، وتزوير إرادتهم. وشملت هذه القوانين تعريفا لهذه الجرائم الثلاث بما يحترم القواعد الدستورية المتعارَف عليها وحدّدت العقوبات المتعلقة بها، ابتداء من العزل السياسى حتى الإعدام. وانتشر مشروع القانون بين الناس كالنار فى الهشيم، ومثل كل شىء فعله عزالدين فى هذه الفترة، بدا أنه أعد له تأييدا على الأرض ووسط الناس قبل طرحه، وأنه يلمس وترا فيهم يدفعهم فورا إلى الاصطفاف خلفه، ولم يستطع مجلس الوزراء ولا القوى السياسية تعطيل القانون أو تحديه، وقمت بإعداده فى شكل مرسوم رئاسى، وصدر بعدها بأسبوع. بدا كأن القدر نفسه يساند عزالدين ضد النظام القديم، فقد تَولَّى وزارة الداخلية قبل شهور معدودة من الذكرى الخامسة على اندلاع الثورة، وحين شارفنا على هذه الذكرى كان يعتلى موجة ثورية عارمة لا يعرف أحد كيف انتظمت بهذا الشكل. وهكذا، فى الخامس والعشرين من يناير 2016، وقف رئيس الوزراء الجديد على منصة ضخمة فى ميدان التحرير، وأعلن عن قيام محكمة الثورة، واعدا الجماهير بمحاكمات عادلة وناجزة، وإصلاح أمنى يعيد الطمأنينة إلى المواطن العادى، والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة لجمعية تأسيسية تضع دستورا دائما، كل ذلك خلال عام واحد، بحيث نحتفل فى يناير التالى بالدعوة إلى انتخابات تشريعية ورئاسية تنهى الحالة المؤقتة للمؤسسات القائمة وضعفها. كما أعلن عن تشكيل لجنة ثلاثية من أرباب العمل وممثلى النقابات والحكومة لإعادة النظر فى هيكل الأجور وقوانين العمل السارية بما فيها قواعد تنظيم الإضرابات، ولجنة أخرى تضمّ ممثلين عن القوى السياسية والنقابات والاتحادات والأجهزة الأمنية والحكومة تتفق على قواعد للتظاهر والاحتجاج السياسى، وعلى بدء مجموعة من الإصلاحات فى مجالات التعليم والصحة والإسكان والمواصلات، لكنه أوضح فى نفس الوقت أن هذه الإصلاحات ستستغرق وقتا حتى تأتى بنتائج ملموسة، واختتم كلمته بالدعوة لتنظيم الانتخابات المحلية فى أول أبريل. كتب المحللون كثيرا عن هذا الرجل وفترة حكمه، وعن الدم الذى سال والرعب الذى نشره نظامه، لكن كل ذلك يُغفِل جانبا هامًّا، هو التأييد السحرى الذى ناله فى كل ما فعل. صحيح أن عزالدين استند إلى تنظيم سياسى وأمنى يكاد يكون حديديا، لكنى لا أظن أنه كان بوسعه فعل أى مما فعله دون التأييد العارم الذى أسبغه عليه الناس. أذكر جيدا أنى وقفت فى مكتبى بمقر الرئاسة أرقبه وهو يتحدث إلى الجماهير على المنصة: أرى المشهد من بعيد من النافذة الخلفية للمكتب وأرى تعبيرات وجهه مكبَّرة على شاشة التليفزيون المجاورة لمقعدى، وأفكر؛ متى تَحوَّل أستاذ العلوم السياسية هذا إلى خطيب مفوَّه يُلهِب حماسة الجماهير. والحقيقة أنه لم يتحول إلى خطيب حماسى، بل كان يتحدث بنفس المنطق البارد المنظم الذى أعرفه فيه، لكن حجته كانت قاضية، وناصعة الوضوح، وكان الناس قد اشتاقوا إلى الوضوح وإلى المنطق دون لفّ ودوران، ودون كذب، ودون مصلحة شخصية. ولبَّى عزالدين كل ذلك، وأكثر. كان كأنه يأخذ الفكرة من رأسك ويبلورها ويعيدها إليك فلا تملك حين تسمعها إلا أن تهزّ رأسك موافقا وتقول «نعم، هذا بالضبط ما أريده». أعتقد أن سحره الطاغى أتى من هنا. وأعتقد أيضا أن إغفاله للفارق الكبير بين ما يريده الناس وما يمكنهم احتماله هو الذى قضى عليه، بعد أن قضى على ضحاياه. أدَّى حسم حرب الطماطم لصالحه، ثم وعود يناير، وتشكيل المحكمة والاصطفاف الشعبى خلف برنامج واضح وخريطة طريق لها معالم ومصداقية، إلى تدعيم الأجواء الإيجابية التى بدأت مع توليه وزارة الداخلية. وبدأت السياحة فى العودة بشكل ملحوظ، وتوافد المسؤولون الأجانب الذين عادوا للاهتمام بمصر ودَورها وفرص الاستثمار فيها، ماليا وسياسيا. بل وبدأ عديد من المصريين الذين سافروا خلال الأعوام الخمسة الماضية فى العودة، حتى صفية أختى أبلغتنى أن إبراهيم زوجها يتناقش مع شركائه الإيطاليين حول مشروعات ووكالات للسياحة يكون مركزها مصر. كانت المنطقة العربية كلها فى حالة بين التوتر والاشتعال، ومن ثم جاءت بدايات الاستقرار فى مصر لتمتصّ كل المشروعات التى تحتاج إلى استقرار. وتوالت العروض على حكومة عزالدين فكرى بإنشاء مراكز إقليمية فى مصر، من الخدمات المصرفية وموانى تسييل الغاز حتى محطات الإمداد والتموين للسفن العسكرية. كأن رئةً فُتحت فى جسد كله مسدود، فتَوجَّه لها الأكسيجين الفائض، وبدأت هذه الرئة تمتص كل ما تستطيعه من أكسيجين، وكلما امتصت بعضا منه تحسنت حالتها أكثر وزادت قدرتها أكثر. قضيت الأشهر الثلاثة الفاصلة بين خطبة يناير والانتخابات المحلية فى شؤونى الخاصة، فلم يكن هناك كثير عمل فى الرئاسة، وعرضت أكثر من مرة المساعدة على عزالدين، لكنى فهمت أنه لا يحتاج إلى مساعدتى. محمود بشير استسلم لاكتئابه خلال هذه الأشهر، وبدا أكبر بكثير من سنه: جالسا على قمة تكتل سياسى يتفكك تحت وطأة صراعاته الداخلية وانقساماته، وهو فاقد الحيوية والرغبة اللازمتين لإبقائه موحَّدا. ما أدهشنى حقّا هو استئنافه علاقته بسالى القصبجى. كدت ألكمه عندما عرفت: متى يتوقف؟! متى يتوقف الإنسان عن ارتكاب نفس الخطأ؟! متى يرجع عن الطريق الذى يؤذيه؟! قال لى عزالدين أن أتركه فى حاله، وظننت وقتها أنه لا يريد إزعاجه بسبب حالة الاكتئاب العميق التى دخلها محمود، ولم أفهم ما وراء الأمور إلا بعد فوات الأوان. لم تعد صفية خلال هذه الأشهر الثلاثة مثلما قالت، لكن خديجة التى جاءت فى منتصف أغسطس حلّت محلها فى حياتى، هى وأبناؤها لارا وتمارا وزياد. والحقيقة أنى كنت فى كل مرة أراهم أفتقدكَ، وأشعر بالظلم والفشل معا. الظلم لأنك لا تعيش معى، أنا أباك، والفشل لأنى أغدق هذه الأبوة على أبناء أخى دونك. كأنى أصلِّى السُّنَن وأترك الفروض. كتبت لأمك مرتين؛ لم أجد فى نفسى القدرة على الحديث معها، ولم تردّ. هذه هى الفترة التى كنا نتحدث فيها مرة كل شهر، أنا وأنت، إن كنت تذكر هذه المحادثات الثقيلة التى يضيع نصفها فى الصمت والسؤال عن الأحوال دون جواب. كنت أحاول حملك على الكلام ومشاركتى أخبارك، وحين أفشل ألجأ إلى الصمت أنا أيضا علك تأخذ المبادرة وتتحدث، وفشلت فى الحالتين. كانت محادثات مؤلمة. ولطالما سألت نفسى عما كنتَ تشعر به آنذاك، لكن لعلك نسيت كل هذا؛ سقطت فى بئر التهاويم التى نحسبها ذكريات. لارا وتمارا وزياد لم يكونوا يتحدثون العربية إلا لماما، لكنهم تَحسَّنوا بسرعة. عبده تولاّهم بالرعاية فى البداية، وأخذهم فى جولات عديدة لتعريفهم بالقاهرة وأحيائها وكيفية التصرف فى المواقف المختلفة دون أن يبدوا سياحا أجانب. وانضممت إلى جولات عبده هذه أيام الجمعة التى كانت نور مشغولة فيها. فكرت فى تعريف خديجة إلى نور لكنى تراجعت؛ كانت علاقتى بنور متوترة وتبدو مرشحة للانقطاع، فقررت أن أنتظر قليلاً حتى تتضح الأمور. اهتمام عبده بخديجة وأبنائها تخطى نداء الواجب، لكن سلوكه ظل مثاليا فلم أعلّق بشىء. الأهم من عبده كان زملاء لارا وتمارا وزياد فى المدرسة، الذين أدخلوهم فى شبكة علاقات الأولاد والبنات فى مصر الجديدة بسرعة البرق. لا شىء يقف أمام الأطفال والمراهقين. وتبددت مخاوف خديجة من أن لا يندمج أبناؤها بسرعة فى المجتمع المصرى، فصاروا نجوما فى المدرسة والحى بسبب إتقانهم الإيطالية وبقية المعارف التى أتوا بها من هناك. وبدأت خديجة تبحث عن عمل، وساعدها عبده فى البحث حتى وجدت فى فبراير عملا فى المركز الثقافى الإيطالى. فى أثناء هذه الأشهر الثلاثة تقلصت علاقتى بعزالدين فكرى الذى ابتلعته مهامُّه بالكامل. وبحلول نهاية مارس كان قد بدأ بسط سلطته داخل وزارة الداخلية الجديدة، حيث فهم الجميع أن لا رجعة عن التغيير، ومن ثم سعى من بقى لمواءمة أوضاعه مع الطريقة الجديدة، وحاول من تم استبعاده ولم يكن قد اقترف جرما جسيما العودة واللحاق بالقطار قبل أن يرحل. وفتح عزالدين ومساعدوه ومستشاروه الباب لكل هؤلاء. عين عزالدين العميد لطفى مستشارا له، رغم كونه ممثل الداخلية السابق لدى الرئاسة، وهو اختيار ذكى؛ فلطفى يريد أن يعيش، وما دامت الأمور تسير فى اتجاه واضح ودون تردد أو انتكاسات فسيسير فى نفس الاتجاه. وكانت معرفته العميقة والوطيدة بناس الداخلية، حتى هؤلاء القابعين رهن الاعتقال، كنزا أحسن عزالدين استخدامه. حيث تحول لطفى -إضافة إلى وظائفه الأصلية- إلى وسيط موثوق به مع هذه القيادات حينَ جاء حينُ التفاوض على تسويات وصفقات. كما بدأ التعاون بين الجهات الشرطية الثلاث: الشرطة المحلية، وفرق الانتشار، وما أصبح يُعرَف بالشرطة الجنائية فى الانتظام. تعارف الناس، وبدؤوا يبنون أسلوبا للعمل معا. استقرار الوضع الأمنى، وبدء عودة الشرطة الجنائية، دعَم الأجواء الإيجابية الناشئة أكثر وبدا أن قوى النظام القديم فى طريقها إلى السقوط النهائى، لكن ظلت للقلق مصادر: محاكمة الثمانية عشر ألفا، والتعامل مع أصدقائهم وأعوانهم داخل مؤسسات الحكومة والهيئات العامة، وكيفية استرداد الأموال الضخمة التى نُهِبَت وتحويلها إلى الخارج خلال السنوات الأربع الأولى من الثورة. ع.ش.فشير