النظم السلطوية مثل قط يقف فوق سطح من صفيح ساخن، لا يستطيع احتمال الحرارة إلى ما لا نهاية ولا يستطيع أن يقفز بعيدا عن السطح فينكشف المستور. وكلما ازدادت درجة الحرارة كلما ازداد القط شراسة وقمعا، بأسلوب خشن أحيانا وبأسلوب ناعم فى أحيان أخرى. وقضية الديمقراطية والحريات الفردية والدينية واحترام حقوق الإنسان فى مواجهة الحكم بالقوانين الاستثنائية فى مصر لم تكن من القضايا المطروحة مباشرة على جدول أعمال الرئيس مبارك أثناء لقائه بالرئيس باراك أوباما الأخير فى واشنطن، ولكنها كما ذكرت «الشروق» فى أحد تحقيقاتها عن الزيارة كانت الحاضر الغائب فى المحادثات لأنها تمس الاستقرار الداخلى فى مصر الذى يؤثر بدوره على استقرار المنطقة. لكن قضايا الشأن الداخلى لا تطرح عادة فى محادثات الرؤساء التى تركز على الخطوط العريضة والمبادئ العامة للسياسات ذات الاهتمام المشترك والمباشر للبلدين، بينما تترك التفاصيل للمستويات التالية من السياسيين والخبراء حيث إنها تتطلب متابعة دورية وتقييم متواصل. كان من الملاحظ أن التسريبات التى سبقت الزيارة وأثناءها، سواء من وزارة الخارجية أو من الحزب الوطنى، تعمدت التأكيد أن جميع هذه القضايا المصيرية بالنسبة للمصريين لن تكون مطروحة للبحث فى محادثات مبارك مع أوباما. واتسمت التسريبات بنبرة سرور خفى بأن إدارة أوباما لم تعد تطرح مثل هذه الأمور فى اتصالاتها مع مصر أو على الأقل ليس بنفس الحدة التى كانت إدارة الرئيس السابق جورج بوش تثير بها هذه القضايا. ويذكر الجميع أن قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان فى مصر وسائر الدول العربية مثارة منذ أيام جورج بوش حين تم تغليفها فى شكل مبادرة الشرق الأوسط الكبير (2004) لنشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط. لكن القوى الوطنية المصرية بجميع اتجاهاتها رفضت المبادرة لأنها جاءت فى أعقاب غزو العراق الفج، ثم لأنها حملت شبهة التدخل العسكرى لفرض الديمقراطية بالقوة على النموذج العراقى، مما أفزع النظم القمعية العربية. سارعت النظم فى تجنيد جميع أتباعها من الكتاب والمثقفين والسياسيين والمنافقين المأجورين بالمناصب العليا والامتيازات لترويج حملات صاخبة تردد صباح مساء أن «الإصلاح لا يأتى من الخارج» و«أننا قادرون على تحقيق الإصلاح من الداخل». عقدت المؤتمرات الخادعة وصدرت القرارات والوثائق البراقة لتمرير الأزمة، وانتهى الأمر بإغراء الولاياتالمتحدة بأن مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية فى المنطقة خاصة فى ظل الصعود الإيرانى الحثيث الذى يهدد السيطرة الأمريكية الإسرائيلية أبقى وأنفع من الإصرار على تغييرات داخلية لم تعتدها الشعوب، ولا تفيدها فى شىء، خاصة فى ظل ضمان السيطرة الأمنية القمعية على الموقف. وتمت هذه المقايضة على وعود إصلاحية لم تتحقق لإزالة أسباب التوتر والاحتقان الداخلى. وواقع الأمر أن منطلق مبادرة الشرق الأوسط الكبير لم يكن خاطئا تماما وإن كان التوقيت غير مناسب. فقد افترض مهندسوها أن التطرف ومنهج الإرهاب الناتج عنه ليس وليد الفكر الدينى المتزمت أو خطب الجوامع والدروس الدينية وفتاوى الجهاد بقدر ما هو نتاج مناخ القهر السياسى والتهميش الاقتصادى والاجتماعى والفوارق الهائلة بين من يملكون ومن لا يملكون. وبذلك فإن الإصلاح بمعنى القضاء على الفساد السياسى والاقتصادى، وإطلاق الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان هو الذى يمكن أن يقضى على التطرف والإرهاب، وليس زيادة القبضة الأمنية المتشنجة. مشكلة الولاياتالمتحدة الحقيقية أن سياستها الخارجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ركزت على مكافحة النظم اليسارية فى إطار المواجهة العالمية مع الاتحاد السوفييتى، وهى بذلك لم تكن مصدّرة للديمقراطية بل داعمة للنظم الديكتاتورية القمعية التى تضمن مصالحها وتقبل قواعدها العسكرية لمحاصرة التمدد الشيوعى. بل إنها كانت شريكا وثيق الصلة فى تدبير الانقلابات العسكرية للإطاحة بالنظم التى تشتبه فى ميولها السياسية، مثلما حدث فى إيران وجواتيمالا ونيكاراجوا وكوبا فى الخمسينيات ثم تشيلى فى سبعينيات القرن الماضى وفنزويلا عام 2003. ورغم تجربتها الفاشلة فى دول أمريكا الجنوبية التى قامت على دعم الديكتاتوريات العسكرية القمعية لحماية مصالحها وانتهت إلى قيام نظم معادية للسيطرة الأمريكية لم تتعلم الولاياتالمتحدة الدرس، وها هى فى الشرق الأوسط تعود من جديد إلى نفس التجربة، تقايض الحريات المدنية والحكم الديمقراطى ب«الخطر الإيرانى» الذى يبيعه لها حلفاؤها المعتدلون وإسرائيل، أو تبيعه هى لهم..سيان. وبذلك تعود الحسابات إلى المعادلة الصعبة: الضغط من أجل إرساء دعائم الحكم الديمقراطى الشفاف وصولا إلى المجتمع السياسى المفتوح حيث نزاهة الانتخابات وسيادة القانون، أم ضمان المصالح وضبط الموقف الداخلى بقانون القوة المفرطة تحت مسميات مختلفة، من قانون الطوارئ إلى قانون مكافحة الإرهاب؟. ولذلك فإن الرهان على الولاياتالمتحدة كسمسار عالمى لنشر الديمقراطية فى الدول التى تتوق إليها هو رهان سياسى خاسر. وتاريخ الولاياتالمتحدة طوال النصف الثانى من القرن العشرين شاهد على ذلك.. تشجع المعارضين على التمرد عندما يكون ذلك فى صالحها ثم تتخلى عنهم ليقعوا فريسة النظم القمعية التى تمردوا عليها لتفتك بهم. حدث ذلك فى المجر عام 1956 وفى تشكيسلوفاكيا (ربيع براج 1968) وفى تشجيع أكراد العراق والشيعة على التمرد فى أعقاب حرب الخليج الثانية (1991) إلى غير ذلك. ولا شك أن تبادل وجهات النظر فى واشنطن بين الرئيسين مبارك وأوباما بعد قطيعة خمس سنوات أمر مفيد من حيث تناول القضايا الإقليمية مثل تحقيق تسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية وانسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة، ومكافحة التطرف والعنف فى المنطقة، والحوار الأمريكى الإيرانى المرتقب وتأثيره على التزامات الولاياتالمتحدة نحو حلفائها المعتدلين، القلقين مما قد ينتهى إليه الحوار من تفاهمات تعترف بدور إيران ومصالحها الإقليمية. لكن هذه المناقشات كلها لا تحقق شيئا إلا إذا شاركت فيها الأطراف المعنية بالأمر مباشرة ووافقت عليها. تبقى بعد ذلك كله قضية الديمقراطية والحريات العامة واحترام حقوق الإنسان فى مصر التى تردد الكثير من الدوائر الحكومية والحزبية أن الولاياتالمتحدة لا تضغط عليها. أكد الرئيس مبارك فى حديثه ل«الأهرام» (17/8) أن قضايا الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان «شأن مصرى» لا يقبل فيه تدخل لا من الولاياتالمتحدة ولا من غيرها، بمعنى أنها شأن سيادى. لكن المسلم به فى العلاقات الدولية منذ زمن بعيد أن الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان هى شئون دولية بحكم تأثيراتها على الاستقرار الوطنى والإقليمى، وأن الدول لا تستطيع أن تتستر بحقوق السيادة لقمع المعارضين أو ترهيبهم أو التنكيل بهم، أو لتضييق الخناق عليهم بحجة مقاومة الإرهاب أو غير ذلك من الأسباب. إن مصر من أنشط الدول توقيعا على المعاهدات والاتفاقيات الدولية التى تقنن حقوق الإنسان وما يترتب عليها من التزامات قانونية دولية. لذلك فإن وضع القط الذى يربض على سطح من صفيح ساخن لا يمكن أن يستمر طويلا، سواء تدخلت الولاياتالمتحدة أم لم تتدخل.