بينما يتداول بعض النشطاء السياسيين فى مصر قصة التيار الإسلامى الذى شارك مع باقى التيارات فى الثورة الإيرانية ثم استحوذ على السلطة وحده، ويردد آخرون قصة النظام القديم الذى عاد إلى الحكم فى رومانيا بعد سقوط الديكتاتور، كسيناريوهات محتملة لإعادة إنتاج الاستبداد فى مصر فإن تلك التحليلات لا تسلط الضوء على اختلاف البنية الاقتصادية فى مصر بعد ثورة يناير مع مثيلتها فى دولة تتمتع بفوائض نفطية وأخرى خرجت لتوها من تجربة الاقتصاد الشيوعى. «الديمقراطية الاجتماعية فى مقابل التنازل عن الديمقراطية السياسية» كانت عنوان العقد الاجتماعى للحقبة الناصرية فى مصر، وهو النموذج السياسى الذى كان تطبيقه ممكنا فى ظل مناخ اقتصادى كان يؤهل لتدخل عميق للدولة فى الاقتصاد، وتكررت تلك التجربة بصور مختلفة فى دول مثل إيران ورومانيا، بعد الثورات. ولكن خبراء الاقتصاد يرون أن إعادة إنتاج تلك التجارب فى مصر أمر صعب ف«نحن فى حاجة إلى عدالة اجتماعية ولكن مبنية على توافق اجتماعى وفى ظل مناخ من الحريات، فأى نموذج استبدادى جديد فى مصر لن يصمد على المدى المتوسط والطويل أمام موجات الاحتجاج المستمرة» برأى نادية رمسيس، أستاذة الاقتصاد السياسى بالجامعة الأمريكية.
«الاقتصاد للحمقى»، كانت الاجابة الشهيرة التى يرد بها آية الله الخمينى، مؤسس الجمهورية الإيرانية، عند سؤاله عن الطريقة التى سيدير بها الإسلاميون الاقتصاد بعد تولى الحكم، الا أن بعض المحللين يرون أن الاقتصاد كان مسئولا بدرجة كبيرة عن تكريس الهيمنة للتيار الإسلامى على الحكم فى البلاد عقب ثورة 1979.
تعتبر دراسة لايرفاند ابراهامين، أستاذ التاريخ بكلية باروخ بالولايات المتحدة، أنه لا العنف الذى مارسته السلطة الإسلامية فى إيران ضد معارضيها ولا كاريزما الخطاب الدينى كانا السبب فى بقاء حكم الملالى لثلاثة عقود «التفسير الحقيقى لاستمرار هذا النظام لن تجده فى الدين ولكن فى الاقتصاد والشعبوية الاجتماعية» وفقا لتعبير ابراهامين. ويشير أستاذ التاريخ فى هذا الصدد إلى ما تعهد به دستور إيران بعد الثورة من تقليل الفقر والأمية والبطالة والعشوائيات والعديد من الخدمات الاجتماعية، وقيامه ب«توسع دراماتيكى» فى الإنفاق على وزارات التعليم والصحة والإسكان والعمل. وقد استطاع النظام الإيرانى تخفيض معدلات الأمية خلال ثلاثة عقود من 53% إلى 15% وزيادة توقعات الحياة من 56عاما إلى 70 عاما، علاوة على انفاقه الضخم على أشكال مختلفة من الدعم مثل دعم الوقود.
وعمل النظام على تحسين حياة الريفيين من خلال زيادة أسعار المنتجات الزراعية والتوسع فى تقديم خدمات فى التعليم والصحة والبنية الاساسية إلى أبناء القرى.
واستطاع النظام الإيرانى أن يحدث تلك التحولات فى السياسات الاجتماعية معتمدا على عدة عوامل منها تمتع البلاد بفوائض نفطية، حيث تستحوذ ايران على ثانى أكبر احتياطى نفطى فى العالم، والذى لايزال محورا لخطاب العدالة الاجتماعية لدى النظام الايرانى حتى الآن.
كما اتخذت السلطة الايرانية اجراءات راديكالية ضد بعض المؤسسات الاقتصادية ساهمت فى دعم موقفها الاقتصادى، حيث قامت السلطات بحركة تأميمات واسعة عقب وصول الإسلاميين للحكم، استهدفت بدرجة كبيرة مؤسسات تابعة لرموز موالية للنظام السابق.
ويختلف بعض الخبراء مثل مصطفى اللباد، رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية، مع التحليل السابق، حيث يعتبر اللباد أن السياسات الاجتماعية كانت عاملا مساعدا فقط لهيمنة الإسلاميين فى ايران، وأن خطابهم الدينى وقدرتهم على إقصاء معارضيهم، إلى جانب ظروف الحرب مع العراق، لعبت دورا رئيسيا فى تكريس دكتاتورية نظام الملالى. ولكن بمقارنة الوضع مع مصر فإن الاقتصاد قد لا يكون عاملا مساعدا لهيمنة التيار الدينى بعد الثورة، لأن «الطرح الاقتصادى المقدم من التيار الدينى فى مصر أقرب إلى اقتصاد النظام السابق، بينما عملت الثورة الإيرانية على تطبيق سياسات جذرية مثل التأميمات التى أجرتها على الطبقة الموالية لشاه ايران، وهو ما دعم سياساتهم الاجتماعية بشكل غير مباشر. بمعنى آخر فقد قدم الإسلاميون فى ايران شيئا للناس فى مقابل استبدادهم السياسى».
رومانيا ستالين وليس عبدالناصر
الاقتصاد أيضا، كان عاملا رئيسيا فى تفسير ظاهرة عودة النظام القديم إلى السلطة، بعد الثورة الرومانية فى عام 1989، وهى التجربة التى يستشهد بها نشطاء مصريون على إمكانية استنساخ نظام مبارك فى الفترة المقبلة.
وتشير بعض التحليلات إلى أن سيطرة النظام الشيوعى على الاقتصاد الرومانى إبان حكم الديكتاتور تشاوتشيسكو، ساعدت النظام القديم على التحكم فى مجريات عملية التحول الديمقراطى، واعادته إلى السلطة فى السنوات التالية لسقوط الديكتاتور.
«رومانيا طبقت النموذج الستالينى فى هيمنة الدولة بشكل قوى على الاقتصاد وهو ما قلل من فرص مقاومة الشعب للنظام القديم بعد الثورة، حيث كان العديد من قواعد النظام القديم قائما فى مناحٍ اجتماعية مختلفة آنذاك» برأى عمرو عادلى، رئيس وحدة العدالة الاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهو الوضع الذى يرى عادلى أنه مختلف عن حالة النظام القديم فى مصر. «الثورة جاءت فى مصر بعد سنوات طويلة من تفكيك المؤسسات الاقتصادية التابعة للدولة، هذا إلى جانب ان النموذج الناصرى لم يقم بالهيمنة على الاقتصاد بنفس القوة التى شهدتها رومانيا».
وكان النظام الشيوعى القديم قد استطاع العودة إلى السلطة فى رومانيا من خلال فوز ايون اليسكو، أحد رجال الصف الثانى فى هذا النظام، بالانتخابات الرئاسية عام 1992. ومن العوامل التى دعمت ذلك برأى عادلى كانت السيطرة الكاملة لنظام تشاوتشيسكو على الموارد الاقتصادية، والتى ساعدت النظام القديم بعد الثورة فى استخدام موارد الدولة العامة لإرضاء قواعد الحزب الشيوعى المنحل والاحتفاظ بولائه له.
ويوضح عادلى أن النظام القديم برومانيا استغل ما يطلق عليه علماء السياسة «شبكات زبونية»، تقدم الخدمات الاجتماعية، كانت منتشرة فى الريف والمدن وموروثة عن الحزب الشيوعى المنحل، علاوة على استغلال الإعلام الحكومى فى ظل غياب كامل للإعلام الخاص آنذاك، للترويج لمرشح النظام القديم. «لقد استطاع النظام القديم أن يثبت مدى نفوذه الاجتماعى فى واقعة فض اعتصام بوخارست عقب الثورة والذى كان يرفع مطالب ديمقراطية، وقام بفضه عمال من قطاع المناجم، وذلك لأن قطاعا كبيرا من النقابات العمالية كان لا يزال محتفظا بولائه للدولة فى الفترة المبكرة التى تلت الثورة»، كما يضيف عادلى.