فى خضم الهجرات الصهيونية إلى فلسطين التى كانت تقبع تحت السياسات الاستعمارية لسلطة الانتداب البريطانى، خاصة بعد صعود النازية فى ألمانيا وبداية موجة جديدة من اضطهاد اليهود فى أوروبا، اندلعت ثورة فلسطينية كبرى ضد سلطة الاستعمار البريطانى، وقادها بالأساس الشباب العربى، وهو الذى مثل جيلًا جديدًا كان أكثر إدراكًا للمؤامرة الصهيونية من الأجيال الأكبر سنًا! يشار إلى هذه الثورة بالثانية تميزًا لها عن الثورة العربية الأولى التى قادها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية فى شبه الجزيرة العربية خلال الحرب العالمية الأولى! لم تكن الثورة العربية الثانية التى اندلعت فى فلسطين عام 1936 هى أولى الانتفاضات أو الثورات ضد البريطانيين أو الصهاينة، فقد سبقها عدة انتفاضات فى القدس وحيفا فى بداية عشرينيات القرن الماضى ردًا على الإرهاب الذى مارسته بعض الجماعات الصهيونية الراديكالية العنيفة، والتى أسست بدورها مجموعة من الميليشيات التى أخذت فى مهاجمة العرب وأراضيهم، كذلك فمع نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، فقد اندلعت مجموعة من الانتفاضات، مثل ثورة البراق والتى قام بها العرب فى صيف عام 1929 ضد اليهود، بسبب محاولة اليهود منع دخول العرب إلى حائط البراق وقد أوقعت الثورة عشرات القتلى من اليهود والعرب وأجبرت بريطانيا على تشكيل لجنة «شو» التى ترأسها القاضى البريطانى والتر شو لتقصى الحقائق، والتى خلصت إلى أن أسباب اندلاع الثورة هو شعور العرب بالتمييز ضدهم سياسيًا واقتصاديًا من قبل البريطانيين واليهود معًا! ثم تجددت الثورات الفلسطينية مرة أخرى وهذه المرة فى عدة مدن بشكل متواز، حيث اندلعت الاحتجاجات الفلسطينية فى القدس ويافا وحيفا ونابلس فى أكتوبر عام 1933 ضد سياسات سلطة الانتداب البريطانى التى سهلت استيلاء اليهود على أراضى الفلسطينيين، ثم مرة ثالثة اندلعت الانتفاضة هذه المرة فى يافا فى أكتوبر عام 1935 بعد اكتشاف الفلسطينيين لصفقة أسلحة مهربة لعصابات الهاجاناه اليهودية تحت أنظار البريطانيين، ثم مرة رابعة بعد مقتل الشيخ عز الدين القسام على يد القوات البريطانية فى فبراير من العام نفسه، وهكذا كانت الأرض تغلى فى فلسطينالمحتلة حتى اندلعت الثورة الثانية فى العام التالى لتستمر لمدة ثلاث سنوات (1936-1939)! • • • كانت البداية من خلال سلسلة احتجاجات وإضرابات قام بها أتباع الشيخ عز الدين القسام فى أبريل عام 1936 بدأت من مدن نابلس ويافا وطولكرم ثم انتشرت كدعوة عامة لكل الفلسطينيين احتجاجًا على سياسات سلطة الانتداب، وفيها بدأت تظهر القدرات التنظيمية للحاج أمين الحسينى الذى استطاع التنسيق بين المدن الفلسطينية المختلفة للدخول فى هذا الإضراب الواسع! تأسست لاحقًا اللجنة العربية العليا، والتى ترأسها الحسينى، ولعبت دورًا مهمًا فى تنسيق أعمال الثورة العربية الثانية. على مدى الشهور التالية فى عام 1936 بدأت أول تنظيمات عسكرية فلسطينية للرد على اعتداءات البريطانيين والميليشيات المسلحة الصهيونية فقام البريطانيون والصهاينة بعمل قوات مشتركة قامت بقمع العرب وتدمير العديد من مدنهم وخاصة مدينة يافا القديمة التى تعرضت للتدمير الأكبر. ومنذ ذلك التوقيت ظل هذا التنسيق العسكرى البريطانى الصهيونى قائمًا، وهو ما يرد على الدعاية الصهيونية المتهافتة التى كانت وما زالت تروج لأسطورة «حرب الاستقلال» فى الإشارة إلى إعلان قيام دولة إسرائيل وكأنه استقلال من الاحتلال البريطانى والاعتداء العربى، فالتنسيق الصهيونى/البريطانى ثابت حتى لو كانت مصالح الطرفين الاستعماريين سمحت بوقوع بعض الاختلافات أو حتى الصراعات بينهما، فهذه كانت صراعات حول كيفية تنفيذ السياسة الاستيطانية الصهيونية وليس ككفاح صهيونى من أجل الاستقلال! هدأت الثورة العربية بعض الشئ بعد قرار بريطانيا تشكيل لجنة لتقصى حقائق اندلاع الثورة والنظر فى المطالب الفلسطينية! وقد طالبت اللجنة العليا العربية الثوار بالهدوء حتى تنتهى اللجنة من أعمالها وهو ما لاقى الكثير من الاستجابات، وقد تشكلت هذه اللجنة برئاسة اللورد ويليم بيل، وهو وزير سابق للمواصلات وعضو فى مجلس اللوردات البريطانى، وقد أخذت اللجنة على مدى ستة أشهر تجوب كل المدن العربية واليهودية، وانتهت بتقرير يطالب بقيام دولتين أحدهما لليهود والأخرى للعرب، وهو ما شكل إحباطًا للعرب فاندلعت المظاهرات مجددًا، توفى اللورد بيل بعد إصدار التقرير بنحو شهرين (سبتمبر 1937)، لكن بقى اقتراح اللجنة نواة لحل الدولتين الذى طرح بعد ذلك لمرات كثيرة وحتى لحظة كتابة هذه السطور دون أى نجاح يذكر! • • • استمرت هذه المرحلة من الثورة العربية فى فلسطين لنحو عام ونصف العام (حتى أوائل عام 1939)، حيث تمكن فيها الفلسطينيون من تنظيم أنفسهم بشكل أفضل، واستطاعوا استعادة بعض الأراضى التى نهبت منهم فى القدس وفى بعض المدن العربية الأخرى، بل قاموا بتشكيل مؤسسات لإدارة الحكم، وقاموا أيضًا بإنشاء المحاكم وهيئات البريد، ومن هنا جاء الرد البريطانى قاسيًا فتم الاعتداء على الثوار وتنفيذ حكم الإعدام بحق العشرات منهم، ثم تم وضع عدد كبير آخر فى معسكرات الاحتلال، وبالتنسيق مع ميليشيات الهاجاناة، تم تشكيل قوات عسكرية بريطانية/صهيونية نفذت مداهمات ليلية على القرى العربية وما تضمنه ذلك من أعمال سلب ونهب صهيونية وسط مشاهدة بل مشاركة بريطانية وصل الأمر إلى استخدام الطائرات والدبابات ضد المحتجين الفلسطينيين! أمام هذه التداعيات شكلت بريطانيا لجنة جديدة فى عام 1938 برئاسة السير جون وودهيد وتم تكليفها بالنظر فى إمكانية تطبيق مقترحات حل الدولتين الذى قدمته لجنة بيل فى العام السابق، وقد خلصت هذه اللجنة الجديدة بعدم جدوى اقتراحات لجنة بيل وعدم إمكانية تطبيقها على الأرض! وفى تلك الأثناء لم يتوقف البريطانيون عن مهاجمة الفلسطينيين وقتلهم أو اعتقالهم بل وتم نفى عدد منهم وخصوصا من التنظيميين فى اللجنة العليا العربية إلى سوريا! وقد أدى هذا التصرف البريطانى المتراوح بين الدبلوماسية واستخدام القوة والبطش إلى اندلاع خلافات ولوم متبادل بين أعضاء اللجنة المنفيين فى سوريا وبين القيادات الفلسطينية على الأرض، وكذلك فقد وقعت بعض الانقسامات الداخلية بين الثوار بين من يريدون مواصلة الكفاح الثورى وبين من أصبحوا ينادون بالتفاوض مع البريطانيين! أمام هذه الانقسامات ولإنهاء الثورة العربية قامت بريطانيا بإصدار تقرير تراجع عن فكرة الدولتين ونادى بدولة واحدة بها قوميتان عربية ويهودية، كما قام التقرير بوضع سياسة «كوتة الهجرة» على اليهود بحيث تم السماح بهجرة 10 آلاف يهودى ويهودية فى السنة بالإضافة لمدة خمس سنوات (1939-1944)، مع وضع حد أقصى لهجرات اللاجئات واللاجئين اليهود (الهاربين بالأساس من النازية) لتقدر بحوالى 25 ألفًا، ليكون إجمال الهجرة الذى قرره التقرير فى هذه الأعوام هو 75 ألف مهاجرة ومهاجر يهودى. كما وضع التقرير بعض التقييد بخصوص حصول اليهود على المزيد من الأراضى العربية، إلا أن هذه الاقتراحات بالطبع لم توافق عليها الحركة الصهيونية وقامت بالالتفاف عليها سرًا وعلنًا بل أحيانًا باستخدام القوة ضد البريطانيين أنفسهم، لكن على أية حال كانت الانتفاضة العربية أُنهكت مع حلول صيف عام 1939 فانتهت عمليًا مع تقديرات تشير إلى مقتل حوالى خمسة آلاف فلسطينى وجرح خمسة عشر ألفًا آخرين، ورغم شعور الثوار بالحصول على بعض المكاسب بعد هذا التقرير فقد غيرت ظروف اندلاع الحرب العالمية الثانية كل عناصر التقرير، وهو ما نستكمل عنه الحديث فى المقالات المقبلة. ملاحظة: تم الاعتماد فى هذه المقالة على عدد من المصادر، أهمها ورقة بحثية نشرت بالإنجليزية بعنوان «تشكيل الدولة من الأسفل والثورة الكبرى فى فلسطين» بواسطة تشارليز أندرسون ونشرت فى دورة دراسات فلسطينية العدد رقم 47 فى خريف عام 2017، وكذلك على ورقة بحثية أخرى منشورة فى نفس الدورية بعنوان «من القانون والنظام إلى التهدئة: القمع البريطانى لثورة 1936-1939 فى فلسطين» بواسطة ماثيو هوجز فى العدد 39 فى شتاء 2010.