الصّوم، رقيّ وتقدّم للشّعوب (3) الشّعوب المتقدّمة والمتحضّرة هي تلك الّتي تعتني بكرامة الإنسان. وبقدر ما تعي تلك الشّعوب أنّ الكرامة الإنسانيّة مرتبطة بالكرامة الإلهيّة تتقدّم وترتقي. ويبقى ما نشهده من تقدّم وتحضّر في دول تخلّت عن الله ناقصاً، لأنّها لا تستمدّ احترامها للكرامة الإنسانيّة من الله بل من فكرها الشّخصيّ، ما قد يجنح يوماً إلى سلبها كرامتها. " الصّوم يُصعد الصّلاة إلى السّماء كما لو كانت ريشة تطير نحو الأعالي. الصّوم هو سبب رُقيّ وتقدّم الشّعوب، الصّوم أصل الصّحة، الصّوم مربٍّ للشّباب وزينة الشّيوخ، والرّفيق الصّالح للمسافرين. الصّوم هو خيمة آمنة للّذين يطلبون مأوى. فالرّجل المتزوّج لا يرتاب من زوجته عندما يراها تصوم دائمًا. بالمثل فالمرأة تثق في رجلها ولا تدع الغيرة تتملّكها عندما تراه يصوم دائمًا" (القدّيس باسيليوس الكبير) إذا ما رافق الصّوم حياة الإنسان بنى تركيبته الإنسانيّة، وقرّب المسافة بينه وبين السّماء. وبهذا الاتّصال السّماويّ الإنسانيّ يتأسّس السّلام الّذي ينعش العلاقات الإنسانيّة الاجتماعيّة. فتضمحلّ النّزاعات والصّراعات، ويعي كلّ إنسان أهمّيّة أخيه. وإذ يدخل الصّوم في الإطار التّربويّ، يعلّم الإنسان النّظام، ويدرّبه على ضبط النّفس وضبط ردّات الفعل العشوائيّة. وينتج عن ذلك إنسان متّزن وصالح في المجتمع. . الصّوم يربّي الجسد والنّفس، وبالتّالي الكيان الإنساني، ليصبح أكثر هدوءاً، وبشاشة، واتّضاعاً. وبذلك تتهيّأ أجيال تسعى لتحقيق صورة الله في العالم. "الصّوم يحفظ الأطفال ويُهذّب الشّباب ويجعل الشّيخ أكثر وقارًا. لأنّ الشّيخوخة عندما تكون مُزيّنة بالصّوم، تصير أكثر وقارًا. وهو للمرأة زينة لائقة ومناسبة، ولجام لكلّ من هم في حالة عنفوان كما يُمثّل الصّوم حفظًا للحياة الزّوجيّة وغذاء للبتوليّة. مثل هذه الأمور ينبغي أن تكون موضع اهتمام كلّ بيت" (القدّيس باسيليوس الكبير). من هنا عظمة الصّوم في كونه مصدر فرح وبهجة للنّفس، إذ إنّه مرآة تعكس للإنسان جماله الحقيقيّ. يجرّده الصّوم من قيوده الّتي اختراها بنفسه ليحرره بالحضور الإلهيّ. "دعونا نتصرّف كما تعلّمنا – فلا نظهر عابسي الوجه في أيام الصّوم القادمة، لكن علينا أن نظهر بوجه بشوش كما يليق بالقدّيسين. فعديم الشّفقة لا يُتوّج، ولا عابس الوجه يحتفل بنصر. فلا يليق أن أفرح وأسعى نحو صحة النفس، بينما ينتابني حزن بسبب تغيير الأطعمة في فترة الصّوم، لماذا أفرح وأهتمّ براحة الجسد، في الوقت الذي لا أبالي براحة النفس؟! فالحقيقة أن الرّفاهية تعوق استمتاع البطن بالمأكولات، أمّا الصّوم فيجلب فائدة إلى النّفس. لهذا ينبغي عليك أن تفرح إذ أعطي لك دواءً فعالاً من الطبيب، دواءً يُمحي الخطيئة. لأنّه كما تموت الدّيدان الّتي تحيا في أمعاء الأطفال بدواءٍ فعّال، هكذا الصّوم عندما يدخل إلى عمق النّفس فإنّه يميت الخطيئة الّتي تسكن فيها" (القدّيس باسيليوس الكبير). الصّوم عمليّة إخلاء للذّات من التّعقيد الحياتيّ على المستوى الجسديّ والرّوحي. وهو فقر اختياريّ مشرّع على الغنى الإلهيّ، حتّى يمتلئ الكيان الإنسانيّ من الحبّ الإلهيّ. نصوم عن الفاني لنربح الباقي للحياة الأبديّة. "طوبى للفقراء بالرّوح لأنّ لهم ملكوت الله" (متى 3/5).