الصّوم، مدخل إلى الحياة الأبديّة (1) أولى الخطوات الّتي يلزم على المؤمن اتّباعها كي يشترك في إصلاح الخلل الكامن في الكون، هي تلك الّتي تجعله يتخطّى ذاته ويتحرّر من قيوده. وبقدر ما يتحرّر ويخلي ذاته ينطلق نحو الآخر ويمسك بيده ليصلا معاً إلى الحرّيّة الحقيقيّة الكائنة في قلب الله. لقد مارست الشّعوب القديمة الصّوم بدافع الارتقاء الرّوحي واستخدمته كوسيلة لتنقية الذّات، أو للتّعبير عن الحزن أو تضامناً مع الأموات كما اعتقد المصريّون القدماء. إلّا أنّ الصّوم في المسيحيّة يأخذ دلالة أعمق، توغل في النّفس الإنسانيّة حتّى تبدّلها من الدّاخل. فيكون الصّوم عمليّة تستأصل التّيه الإنسانيّ ليستعيد عافيته ويقوّم مساره مع الله. ولئن كان كلّ شيء جديداً في المسيح، فلا ريب أنّ الصّوم في المسيحيّة يتّخذ منحى جديداً غير ذلك الّذي سلكه الإنسان قديماً. والانقطاع عن الأكل والشّرب ما هو إلّا وسيلة تمهّد للانقطاع عن العالم لملاقاة الرّبّ. "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنّهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للنّاس صائمين. الحقّ أقول لكم: إنّهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للنّاس صائماً، بل لأبيك الّذي في الخفاء. فأبوك الّذي يرى في الخفاء يجازيك علانية." (متى 18،16:6). الصّوم الجديد، صوم حرّ، ينطلق من عمق المحبّة الإنسانيّة إلى ذرى الأعالي الإلهيّة. صلة وصل بين العلوّ والعمق لتتحقّق الحرّيّة الإنسانيّة. (لا تكونوا كالمرائين)، عبارة تلزم بالعودة إلى الدّاخل، إلى الحياة الأبديّة الكامنة في العمق. وكأنّي بالمسيح يقول إنّه بقدر ما يظهر الصّوم على الوجوه يفتقر الدّاخل لفعاليّته. والفعل الخارجيّ للصوم، يفترض أجراً خارجيّاً. أي أنّه ينتظر استرضاء من النّاس. ومن يصم ليلقى التفاتة من النّاس ينلها وحسب. وأمّا من يصم بدافع الحبّ فأبوه الّذي في السّماء يجازيه علانيّة. (وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للنّاس صائماً، بل لأبيك الّذي في الخفاء. فأبوك الّذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.). نصوم في الخفاء، فنتبدّل في العلن، وتنكشف صورة الرّبّ للآخر. لأنّ الصّوم في الخفاء عودة إلى الدّاخل وتجذّر في الرّبّ السّاكن فينا، ومرافقة له في حياتنا الأبديّة الّتي نحياها في عمق أعماقنا. وأمّا الصّوم العلنيّ فانحراف عن الدّاخل الإنساني باتّجاه إعلاء المظاهر قيمة تنتظر أجراً من النّاس (إنّهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للنّاس صائمين. الحقّ أقول لكم: إنّهم قد استوفوا أجرهم.) بانقطاعنا عن الأكل والشّرب، نمهّد لانقطاع عن كلّ ما يربطنا بالعالم، لا لنهرب منه، بل لنتوغّل في قلب المسيح حتّى يظهر للعالم أجمع.