الصّوم أبعد من فعل جسدانيّ (2) لقد وعى أباؤنا أنّ الصّوم فعل ينطلق من الدّاخل الإنسانيّ إلى خارجه. ومن خلال اختباراتهم الرّوحيّة العميقة، جعلوا من الصّوم رفيقاً دائماً، حرّرهم من الأنا المستأثرة بالنّفس، لتمسيَ إنسانيّتهم أرحب فيسكنها الرّبّ وحده. ما نفهمه جليّاً من مفهوم الصّوم عند القدّيس يوحنا فم الذّهب، إذ إنّه يعتبر أنّ الصّوم هو تحرير للنّفس بجهاد الجسد. "ليس الصّوم رياضة جسديّة بل روحيّة" (القدّيس يوحنا فم الذّهب). لأنّه لو كان رياضة جسديّة لوقف عند هذه الحدود، وما تمكّن هذا الفعل، أي الصّوم، من تغيير الإنسان من الدّاخل. ومتى تحرّرت النّفس تحرّر الإنسان واقترب من قلب الله حدّ ملامسته. "الصّوم غذاء الرّوح، يجعلها أكثر صلابة، ويهبها أجنحة خفيفة بهما تنطلق إلى الأعالي".(القدّيس يوحنا فم الذّهب). حرّيّة النّفس مرتبطة بحرّيّة الجسد، لأنّها المحرّك الأساس له. نجاهد بالجسد ونكبح رغباته وشهواته، ونمنع عنه متطلّباته الفانية، لنهتمّ بتربية النّفس، وتطويعها لمشيئة الله، وإخضاعها لإرادتنا بدل أن نخضع لها. فتنعتق النّفس وتتّزن وتتعمّق علاقتها بالمسيح فيتحرّر الجسد. وبالتّالي فالصّوم فعل يدرّب النّفس كما الجسد ولا يقوم بفعل قمع لهما. فالفرق شاسع بين التّدريب والقمع. التّدريب يعزّز الإرادة ويمنح الإنسان القدرة على التّحكّم بسلوكيّاته، فيوجّهها للخير الّذي يريده الله. وأمّا القمع فهو فعل يولّد الحقد وينتظر فرصة ليتفجّر عشوائيّاً. هذا التّدريب يمنع عن الإنسان بذور الخطيئة الّتي تنبت في النّفس أوّلاً قبل أن تتحوّل إلى نتيجة فعليّة. من هنا أهميّة الصّوم المرافق للتّوبة، فالتّوبة قرار بعدم الرّجوع إلى ما يجرح صلب المحبّة الإلهيّة. ما يحتاج إلى جهاد جسديّ وروحيّ وعلاقة وطيدة بالرّبّ، يساعدنا الصّوم على تعزيزها. "الصّوم الحقيقي ليس امتناعًا عن الطّعام فحسب، بل وكفّ عن الخطايا أيضًا. فقد صام الفرّيسي وخرج صفر اليدين، معدمًا من ثمر الصّوم، أما أهل نينوى فصاموا وربحوا مراحم الله. صام اليهود ولم ينتفعوا شيئًا بل امتلأوا لومًا. فالخطر عظيم بالنّسبة للّذين لا يعرفون كيف يصوموا. لنتعلّم قوانين هذا التّدريب حتّى لا نسعى باطلًا، ولا نضرب الهواء، ولا نحارب الظّلّ. الصّوم دواء، لكنّ الدّواء يصير غير نافع بل ضارًا للّذين يستعملونه بغير مهارة. كرامة الصّوم لا في الامتناع عن الطّعام بل في الانسحاب من الأعمال الشّريرة. لا تصوّم فمك وحده، بل صوّم أيضًا عينيك وأذنيك وقدميك ويديك وكل أعضاء جسدك. صوِّم يديك بالنّقاوة من الاغتصاب والطّمع. صوِّم عينيك بتعليمها ألّا ترتكزا في التّطلّع على ملامح البعض وتنشغلا بالجمال الغريب… أما صوم الأذنين فيكون بعدم قبول الكلام الشّرير". (القدّيس يوحنا فم الذّهب). ولئن كان الصّوم جهاداً فيلزمه أن يترافق والصّلاة، لغة التّواصل مع الرّبّ، كي نستمدّ منه الحبّ والشّغف بالانقطاع عن العالم لملاقاته وحده. "صام الرّسل أكثر الأوقات. ومن يصلّي صائمًا يملك جناحين أخفّ من النّسيم"( القدّيس يوحنا فم الذّهب).