من تراه المؤمن الحقيقيّ الّذي يتجرّأ على ترداد عبارة القدّيس بولس: " اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" ( 1 كورنتس 1:11). وكأنّي بالرّسول يعلن في هذه الآية أنّه بلغ ملء قامة المسيح ويحقّق صورته جليّاً في العالم. نحن مدعوّون في كلّ حين إلى اختبار إيماننا، وإلى التّفكّر في السّعي جاهداً إلى نموّه وارتقائه، أيّ في اختبار حقيقة حبّنا للرّبّ. لقد وصل القدّيس بولس إلى مرحلة إيمانيّة تعبّر عن امتلاك المسيح لكيانه كلّه. " حياتي هي المسيح والموت ربح لي". ( فيليبي 21:1). أيّ أنّه بلغ حدّ التّفكير بمنطق المسيح، والنّظر بعينيه، والعظة بكلماته، والتّنفّس بأنفاسه، والحياة بقلبه. فما عدنا نفهم حياة القدّيس بولس بدون المسيح. ذلك هو الإيمان وهو أن تنصهر حياتنا بالمسيح الحيّ. وتبقى ملتبسة المعاني، وفاقدة لقيمتها الجوهريّة بعيداً عنه. إنّه الإيمان الّذي ينقل الجبال، ويُخرج المؤمن من العالم وإن كان ما زال يحيا فيه. ويتحقّق هذا الإيمان باللّقاء بالرّبّ في كلّ حين، والإصغاء لكلمته، وتجاهل مغريات العالم والانغماس فيها حتّى الضّياع. " جرّبوا أنفسكم، هل أنتم في الإيمان؟ امتحنوا أنفسكم." ( 2 كورنتس 5:13). وامتحان الذّات يتجلّى بالعودة إلى كلمة الرّبّ في الإنجيل المقدّس بالدّرجة الأولى، وتبيّن مقدار فعاليّتها في حياتنا. كما يظهر في علاقتنا اليوميّة مع الآخر، وحسن تحمّلنا لمسؤوليّاتنا دون تأفّفٍ، واعتبار كلّ عمل، أو قول، أو قرار، أو هدف، موجّهاً للمسيح. إنّ امتحان الإيمان ينمّي حبّنا في المسيح، ويثبّتنا في الحبّ العظيم الممنوح لنا من الرّبّ، ويحوّلنا إلى مسيح آخر يتنقّل في هذا العالم. الإيمان انتصار على العالم، لأنّه علاقة إلهيّة إنسانيّة. وكلّما لاذ الإنسان في قلب الله حيا في هذا العالم بفكر وقلب إلهيّيْن. والانتصار بمعناه الإلهي يختلف عن الانتصار بالمعنى المراد بشريّاً. فالإنسان يبحث عن انتصار بالقوّة والعنف غالباً، وأمّا انتصار الإيمان فهو غلبة الحبّ. وقد لا يفهم كثيرون منطق الإيمان الّذي يغلب العالم ويرون فيه ضعفاً واستسلاماً، إلّا أنّ هذا الإيمان هو منهل الحرّيّة، ونبع الفرح والسّلام. يتّحد المؤمن بيسوع المسيح الحيّ، فيحا السّماء منذ الآن وبالتّالي ترفعه هذه الحياة السّماوية إلى ما هو أبعد من العالم، بل تخرجه منها وتفجّر فيه الحياة الأبديّة السّاكنة فيه. ويبدأ بالعيش بحسب السّماء وهو على الأرض. " كل من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا." ( 1 يو 4:5). من ولد من الله، انتقل من الظّلمة إلى النّور، ومن الموت إلى الحياة، وأمات كلّ عائق بينه وبين محبوبه الإلهي. ولا يستطيع الإنسان أن يتحرّر من جاذبيّة العالم إلّا إذا بنى علاقة حبّ مع الله، فينجذب إليه، ويتلهّف للقائه، ويرجو إرضاءه، ويذوب حبّاً وفرحاً لسماع كلمته. الإيمان هو فعل الحبّ العظيم الّذي يبلّغ الإنسان إنسانيّته الكاملة، ويرفعه إلى المجد الإلهي. إنّه العين الّتي تجعلنا نعاين محبوبنا الإلهي، والفهم الّذي يقرّبنا من فكره، واللّغة القائمة بيننا وبين الإله الحبيب. ليس المؤمن مَن اعترف بوجود الله، بل المؤمن من أحبّ الله فعَرفهُ.