أحمد المنجى كانت شمس الجمعة تتدلى إلى مهبطها وضوؤها الناعم يغمر الشارع الزاخر بالعابرين ويتسلل من النافذة الزجاجية الكبيرة لمقهى الأمريكيين على طوار الشارع ليضفى على عينى يارا العسليتين لون الذهب، وفى الكرسى المقابل لها جلس حسام يتأملها غَبِطا باللحظة ملتبس الأفكار. كانت تنتظر منه موقفا حاسما فهى لم تقبل دعوته للمقابلة ولا ردت عليه من الأساس إلا لتسمع منه تصريحات بأن شغفه بها لم تذهبه السنون ومتغيرات الزمن. كانت تحتاج ذاك التصريح حق الاحتياج فى هكذا توقيت من حسام أو من غيره. أما حسام فمنذ أن عرف بفسخ خطبتها جعل يطمئن عليها بعد انقطاع ويبعث لها كل حين حتى عرض المقابلة ووثب قلبه من الفرحة لقبولها وكان يطوى الوقت ليصل إلى لحظة اللقاء، وهى التى لم تكن، منذ أن عرفها، كأترابها من شابات تلك الأيام فى الانجراف والخفة واللمم، بل كانت أنضج وأكثر تريثا، عملية جدا ومحددة الوجهة، ولها من اتزان الرأى ما يجعلك لا تضجر أبدا من طول الحديث معها. غير أنه لما ظفر باللقاء وعبّأ عينيه وروحه بمخزون كافٍ منها، وجد فى انكبابه ودلقته تردداً واهتزازاً، وكأن ما كان يقبض عليه من رغبة محددة انساب من بين أصابعه كماء عذب. لا تزالين كما كنتِ تماما، تجيدين اللعب بالكلام. قالها بلهجة هادئة ينبض فيها الحنين. وندت عنها ابتسامة مفعمة بالنغش تستنكر التهمة. أنا؟ أبدا لماذا تقول ذلك؟ سألتك عن سبب انفصالكما لا لتردى بأنها القسمة والنصيب ونقطة، بل لتحكى إن لم يكن فى الأمر ما يزعجك. اسمعى، لا أريد أن أكون متطفلا إلى حد كبير.. لا أبدا، كل ما فى الأمر أنه كان يعمل فى الكويت ولم تكن تجمعنا إلا المكالمات القصيرة وحتى عندما كان ينزل فى إجازات كان العمل يحتل مكانة كبيرة فى ذهنه وكلامه، كان يعتقد أن الهدايا الغالية والذهاب إلى الأماكن الفارهة يقدر أن يعوضنى عن اهتمامه وحضوره، تفهمنى؟، والحقيقة أننى لم أستطع التصالح مع الوضع أكثر من ذلك. ونظرت إليه نظرة نافذة وأردفت: كنت فى واد وهو فى واد آخر، أتفهم ما أعنيه؟ نعم نعم أفهمك، تلك هى إشكالية أغلب من يعملون فى الخليج، يتوهمون أن لأموالهم التى جمعوها القدرة على تعويض ما يفوتهم فى غربتهم من روابط إنسانية وتبادل المشاعر، بالنسبة لهم هو أشبه بعزاء للنفس. يا سلام يا فيلسوف، بالضبط، عدا ذلك فهو شخص ممتاز حقا. وضحكا. كان مهندسا معماريا مثلك أليس كذلك؟ أنت متابع جيد إلى حد كبير. أليس واجبا أن أطمئن عليك، أنا صائن للعيش والملح ليس إلا. أصيل، نعم صحيح، كان يكبرنى بدفعتين. وأشعل سيجارة وقال يتصنع شيئا من الأسى: يلا ليس له فى الخير نصيب، ربنا يعوضك بما هو أفضل. وتأهب لتسأله عن أحوال حياته وتجاربه العاطفية فى فترة الانقطاع والتى لم يحظَ بأى واحدة منها طوال تلك الفترة إلا أنه قد ألف حكايتين عن علاقتين عاطفيتين نسجهما من محاولتين فاشلتين للتقرب من فتاتين، لكنها ارتشفت من العصير وانشغلت عنه بهاتفها فبلع غصته وأخفى خيبته بالانشغال بمطالعة قناة إخبارية على الشاشة المكتومة الصوت المتدلية من الحائط، ولم يكن من شاشة فى أغلب أنحاء الجمهورية أن تنضح بغير الأخبار فى تلك الأيام بسبب الأحداث، ثم عرج إلى النافذة على يمينه واستقرت متابعته من خلف الزجاج على بائعة ألياف على الرصيف قد علقت طفلتها على حمالة، كانت تدور وتتمايل معها على أنغام بليغ حمدى المنبعثة من المقهى والطفلة تتشبث بطرف ليفة بكفها الرقيق الصغير. كاد أن يسمع هدير قلبهما كخفقانٍ فى صدره، كيف حملتهما المصادفة فى لحظة من الزمن وعلى نفس الرصيف ليشاطراه نفس الإحساس؟ وكأن كل من يعبر من هنا يكابد ما يكابدونه من مراقبة الأمل عن بُعد، ثلاثتهم يرجون الحب غير أن الظروف لا تسمح. وخطر له قول صديق له: إن زينة حياة الرجل هى أن يؤتى امرأة ذكية راجحة العقل، غير أن النساء الذكية تتبرع بهم الأقدار للرجال السطحيين بسطاء العقل. أما الرجل المتعمق فى فهم الحياة والمدقق الحالم يندر أن تضعه امرأة ذكية فى خانة الحبيب، لأنها لا تنال منه إلا كل تأخير وحذلقة، وهى التى كلما زادت رجاحة عقلها انتقت ما هو أنفع لها، قد يرد أن تعجب به وبمغامراته فى مرحلة ما ولكن فور أن تلاعبه الدنيا تودعه متمنية له كل خير. وتبع المرأة وابنتها بعينيه حتى اختفتا. وتسلقه شعور بالشفقة على نفسه كنذير شؤم فى ليلة عرس، ما الذى جرى؟ لم تكن تلك الفجوة بينهما فى ما مضى، وأحس لتوه بأنه لا وزن له وأن سنينه انصرمت فى خيالات الروايات والأفلام المنثورة، وكأن كل ظروف تستجد وأوضاع تتقلب إنما تحدث لتوسع تلك الفجوة وتفكك كل أمل فى الوِصال، والآن يبحث عن معجزة ليلحق بركب المنافسة فى عالمها الأثيرى ويجابه إسلام خطيبها السابق، أو غيره ليظفر بمركز الحبيب. وألح عليه اليأس كمقامر لم يبقَ له على الطاولة ما يخسره، وطفت التفاعلات فى داخله على محياه فى هيئة ارتعاشات، وتحول إلى يارا يرمقها بنظرة تبرأ من العفة براءة الذئب من دم يوسف، متفحصة لكل تفاصيلها الفاتنة، ونادته صرخات من الأعماق بأن لا بأس بهجمة واحدة عليها تكسر كبرياءها وتعاليها عليه وتكون تفريغا لنشوته إلى الأبد، غير أن قوضها المكان والزمان ورواسب التربية. وتشوشت هى من النشوة الحائمة فى نظرته فاحمرت وجنتاها السمراوتان فى اضطراب واتخذت من هاتفها سبيلا للفرار من جديد، ولامست فى معدتها غصة ضجر وندم. كان تائها فيها يفترسه العذاب لا يملك لها ما يقدمه سوى هذه الرغبة الثائرة الحاضرة. علًّى شيئا ما أن يحدث فيجعل الحاضر مستقبلا، هى بلا رجل وهو يستطيع أن يراها وينهل منها وقتما شاء كأنها خطوبة غير معلنة ولا ملزمة. واستبد العوز به واستخف من عقله بلا كابح، ولشدة تأثره بالأحداث لاح له مشهد بيوت تتساقط وبشر تجرى فى هلع وترامى إلى أذنيه صوت صافرات إنذار يختلط مع أزيز الطائرات كما فى أفلام الستينيات المنخورة فى رأسه. ماذا لو امتدت الحرب إلى هنا، فى الحروب تبقى الأوضاع كما هى، فى الحروب لا يتقدم الناس خطوة فى حياتهم ولا يفكرون فى غدهم، فى الحروب يستوى الأعمى والبصير، الناجح والفاشل، الحالم والواقعى، رُب مصائب قوم عند قوم فوائد، ورُب كارثة تنفخ الروح فى الأمل. لقد احتل جيش الاحتلال المعبر من الناحية الفلسطينية، هل قرأتِ الخبر؟ قالها بلا سياق كالذى بدأ يغلبه السكر. وحدجته هى بنظرة ارتياب حادة وردت فى نفور: نعم، علمت. سيصبح الشريط الحدودى كله تحت سيطرتهم وسوف تمتد الحرب إلى هنا. وأردف بحماسة ساذجة: لقد خرقوا الاتفاقية رسميا وجيشنا ينفد صبره كما أن حزب الله فتح جبهة فى الشمال وستدخل إيران والحرب الشاملة صارت قدرا لا اختيارا. لا تهول الأمور، ربنا ما يجيب حرب. ستقوم الحرب لا محالة وسنأخذ بثأر أهلنا فى غزة، سنعيش أياما ثقالا ثم الخلاص للأبد، وإن جيشنا على كيدهم لقادر. وكاد أن يؤكد لها ما كان يساورها من شكوك حول سلامته العقلية أو النفسية بانفعاله ونبرته المتشنجة. وحفزته على محاولة إحضار شىء من رشده نظرتها المتعالية الباردة المترصدة، فاعتدل فى مجلسه وأشعل سيجارة وعاد ينظر من النافذة الزجاجية عله يجد من يشاطره غليانه الآن، ونفث دخانه وضحك مستنكرا فى غير اتزان كأنه يفشل فى استعادة نفسه، ثم برر لها حالته وأطرافه تتحرك بلا حساب دون أن ينظر فى عينيها بأنه متوتر قليلا من كل ما يجرى حوله. وابتلع ريقه وصرح بوجه مبهوت وصوت رخو: اسمعى يا يارا أنت آية من آيات الجمال والذكاء حقا، وإنى لم أبرأ من هيامى بك أبدا فى غمرة الحياة وطول المدة ولكن. ولامس أناملها الموضوعة على الطاولة فارتعشت وسحبتها فى حركة سريعة كأنها متدربة عليها وانقبضت أساريرها وطفح الضيق تماما على المجلس واعتذرت منه فى رقى بأن عليها الذهاب فى الحال وتركت مئتى جنيه على الطاولة وتركته فى حُمّته بلا رجعة.