صار الله إنساناً وحلّ بين البشر ليصير كلّ إنسانٍ مسيحيّاً. ولا نريد بكلمة " مسيحيٍّ" المعنى الدّال على اللّقب أو تعريف الانتماء العقائدي أو الطّائفيّ، وإنّما المقصود بها المعنى العميق المرتبط بالكيان الإنسانيّ. فكلمة " مسيحيّ" بمعناها الحقيقيّ لا تشكّل عنواناً لمجموعة من النّاس ينتمون إلى دين معيّن، بل تحمل في صلب معناها " الإنسان الجديد المتّحد بيسوع المسيح". " من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو في الله" ( 1 يو 15:4). وإذ تجسّد الرّب متّخذاً صورة إنسان، فليعطي الإنسانيّة معناها الجليل ويعيد لها تعريفها الأصليّ كما أراده كاملاً من قبل إنشاء العالم. أنت مسيحيّ، إذن أنت إنسان جديد. ويشمل هذا التّجدّد كلّ ذرّة من الكيان الإنسانيّ، بدءاً من الفكر وصولاً إلى الرّوح. وإذا أردنا أن نعرّف الفكر المتجدّد بالمسيح، فهو ذاك الّذي طلب الحكمة الّتي من فوق. والفكر المسيحيّ هو ذاك المعتمِد على الحكمة الإلهيّة، فيستمدّ منها كلّ طاقاته الإبداعيّة ويوظّفها في خدمة الآخر، ويسعى جاهداً لتحقيق الفكر الإلهي في العالم. إنّه العقل الباحث والمحلّل والدّارس انطلاقاً من حكمة الله لا من حكمة العالم. فيسخّر كلّ قواه لنقل الحقيقة وإظهارها لأنّه عرفها وتبيّنها، في حين أنّ العالم ما زال يبحث عنها. " وأما الحكمة التي من فوق فهي أولاً طاهرة، ثمّ مسالمة، مترفّقة، مذعنة، مملوءة رحمة وأثماراً صالحة، عديمة الرّيب والرّياء." ( يعقوب 17:3). كما أنّ هذا الفكر الجدير بنقل الحقيقة والموثوق به يسهم في تحرير الفكر التّقليدي من ثوابته ومسلّماته لأنّه فكر حرّ وغير خاضع لأيّ فكر عالميّ. فالفكر التّقليديّ هو نوع من أنواع الخضوع، والمسيح أتى ليحرّر الإنسان من كلّ خضوع وعبوديّة. من هنا نفهم معنى قول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس ( 10:1): " أطلب إليكم أيّها الإخوة، باسم ربنا يسوع المسيح، أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً، ولا يكون بينكم انشقاقات، بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد." . فهل عنى القدّيس بولس بهذا القول ذوبان واحدنا في الآخر، وعدم التّمتّع بالاستقلاليّة الفكريّة؟ قطعاً لا. وإنّما أراد تسليط الضّوء على الفكر الواحد بالمسيح، أيّ الفكر المسيحي الّذي ينبغي أن يكون مصدر كلّ فكر. تبدأ عمليّة التّحرّر من الفكر فتتوسّع آفاق الإنسان العقليّة، وينفتح على المعرفة حتّى يسمو ويرتفع عن الصّغائر والسّطحيّات، ويتحرّر من عبوديّة التّقوقع والانغلاق. وإن كان من فكر حرّ فهو في المسيح، وإن كان من حرّيّة حقيقيّة ومطلقة فهي في المسيح. وإن كان من إنسان لا يخضع لشيء ولا يتسلّط عليه شيء ولا يستعبده شيء، فهو الإنسان الحرّ في المسيح. " وأما الرّب فهو الرّوح، وحيث روح الرّب هناك حرّيّة." ( 2 كورنتس 17:3).