" من لا يحبّ لا يعرف الله، لأن الله محبّة." ( 1 يو 8:4) هذه الآية العظيمة تحدّد جليّاً طريق المعرفة إلى الله، وتشكّل علماً فلسفيّاً ولاهوتيّاً موجّهاً إلى من يودّون الوصول إلى أدلّة قاطعة ونهائيّة تؤكّد الحضور الإلهي. كما أنّها تنقلنا من ضفّة البحث العقلي إلى البحث الكياني، إن جاز التّعبير. بمعنى آخر، قد يوصل المنطق العقلي الإنسان إلى تلمّس حضور الله نظريّاً، إلّا أنّه سيواجه تساؤلات منطقيّة عدّة تحول بينه وبين اليقين. وأمّا الطّريقة السّليمة المؤدّية إلى الحقيقة الإلهيّة والّتي لا تشوبها أيّة شائبة، تظهر في ما هو أعمق من العقل والمنطق،ألا وهو الكيان الإنساني الدّاخلي غير المحدود. المحدود يدرك محدوداً مثله، وأمّا غير المحدود فلا يبلغه إلّا العمق الحرّ والمتفلّت من الحواجز والمحدوديّة. يقول القدّيس يوحنّا ببساطة أنّ من يدّعي أنّه يعرف الله أو يعبده أو يرتبط به وهو لم يكتشف الحبّ الإلهي في داخله الإنساني، فهو حتماً لم ولن يعرف الله. وهنا تسقط كلّ النّظريّات والأيديولوجيّات القائلة بمعرفة الله عقليّاً. لأنّه إذا ثبت أنّه يمكن للعقل أن يدرك الله مستغنياً عن العمق الإنساني، فوكأنّنا نقول أنّ الله محدود. لكنّ البحث العقلي أثبت عدم محدوديّة الله وإلّا لأدرك جميع البشر الوجود الإلهي. وبالتّالي من أراد أن يعرف حقيقة الله عليه أن يدخل إلى عمق ذاته الإنسانيّة ويكتشف الحبّ الأصيل فيها، وعندها تبدأ المسيرة نحو الله. الله محبة" ، ليس هذا التّعبير تحديداً لطبيعة الله المجرّدة، بل هو حصيلة تأمّل عميق للرّسول يوحنا في عمل الله الخلاصي، خصوصاً في شخص ابنه يسوع المسيح. وبالتّالي تتجلّى الحقيقة بوضوح كامل وتام، لتظهر لنا حبّ الله الفائق كلّ تصوّر بابنه يسوع المسيح، المحبّة المتجسّدة شخصاً. " تلك هي المحبّة. نحن ما أحببنا الله، بل هو الّذي أحبّنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا. فإذا كان الله، أيّها الأحبّاء، أحبّنا هذا الحبّ، فعلينا نحن أن يحبّ بعضنا بعضاّ." ( 1 يو 11،10:4). نحن ما أحببنا الله، لأنّنا لا نعرف كيفيّة أنّ نحبّه، فأفاض حبّه علينا وغمرنا رحمة ومحبّة. ومبادرته في الحبّ علّمتنا ودلّتنا على الحبّ الأصيل والحقيقيّ، بل دلّتنا على الحضور الإلهي الحقيقي بيسوع المسيح. وأمّا حبّنا الموجّه إلى الرّبّ يشكّل اعترافاً بالحقيقة الإلهيّة والتّوقّف عن البحث عنها للتّحوّل إلى عيشها واكتشافها إلى الأبد. نستشفّ الحبّ في ذواتنا فنتلمّس الله، ونتبيّن جوهرنا المجبول بالمحبّة فنعاين الرّبّ، ونتشوّق إليه فنحيا به ومعه إلى الأبد.