انشغل الانسان بالطعام منذ خلقه، كعامل من العوامل الأولي التي شكلت هويته، وربما حددت مصيره كذلك، كما ذكر في جميع الأديان الإبراهيمية. والمطبخ المسيحي مميز بين مطابخ الأديان الابراهيمية ويشكل هوية خاصة بكل ما أتيح له من طعام، علي عكس المطبخين اليهودي والإسلامي اللذين حرما بعض الطعام والشراب. فليس هناك ما تم تحريمه في المسيحية لذلك فالمسيحي الذي يعيش في مجتمع فاقد للتنوع الديني مثل المجتمع المصري يأكل بشكل مختلف لكنه يحاول أن يبرر ويخفي ذلك الاختلاف. هذا ما يناقشه شارل عقل ببراعة في كتابه »غذاء للقبطي» الصادر عن الكتب خان. يبدو الكتاب لوهلة مجرد توثيق لعادات المطبخ القبطي المصري، لكنه يتجاوز الموائد القبطية ليتحول إلي دراسة أنثروبولوجية عن المجتمع القبطي ويمتد للمجتمع المصري ككل. بطبيعة الحال لن يستطيع أحد أن يتحدث عن المطبخ القبطي دون الإشارة للمجتمع المصري المسلم كما يقول عقل »يشعر القبطي بالذنب حين يبالغ في استهلاك الكنافة والقطايف وسائر المنتجات الرمضانية، وذلك الذنب ناتج عن إحساس المسيحيين بالندية بالرغم من قلتهم العددية ومقارنتهم الدائمة بين تأثرهم بالنظام الغذائي الإسلامي وتأثير نظامهم علي العائلة المسلمة. فلا تتأثر العائلة المسلمة كثيرا إذا انعكس الوضع بالاعتبارات الغذائية المسيحية نتيجة لعدم ظهورها في الفضاء العام بالقدر نفسه من الوضوح واللجاجة». يقول عقل إن: »المطبخ القبطي هو مطبخ المبالغات. المبالغة في التقشف أو الزهد من ناحية أوقات الصيام، وفي الناحية الأخري نجد المبالغة في الترف والإفراط في أوقات الفطار»، وهو ما يتحدث عنه الكتاب بالتفاصيل في كل فصل تقريبا. يبدأ بالفول، الأكلة الأشهر في المطبخ المصري بشكل عام وفي المطبخ القبطي بشكل خاص باعتباره الوجبة الأساسية في الصيام المسيحي الذي يمتد لحوالي مائتي يوم في العام. يحكي عقل بحس فكاهي سليم كيف يتحول طبق الفول الذي تفتتح باسمه المحلات في أوقات الصيام إلي طبق بائس يناسب ثقافة المطبخ القبطي التي تقوم علي التقشف ليصبح طبقاً بني اللون ضارباً إلي الرمادي منزوياً في ركن المائدة. ثم المخبوزات التي تتزين بمبالغة في وضع السمن والزبد واللبن والبيض في غير أوقات الصيام. لكنها لا تعدو كونها فطائر بدائية الصنع في أوقات الصيام. لكن »بين مبالغات التقشف والإفراط توجد منطقة رمادية واسعة» وهذه المنطقة المتسعة تشمل الكثير من التحايلات علي عادات الأقدمين أو المسلمين المعاصرين جيران المجتمع علي حد السواء. وهي المنطقة التي تدور في فلكها فصول الكتاب العشرة. تمتد التحايلات من الأكلات البسيطة مثل عمل البيتزا الصيامي التي تزداد صعوبة أمام خلوها من السمن والدهون والإضافات الشهيرة مثل اللحوم والجبن بأنواعها. والمنتجات الإشكالية أثناء فترة الصيام مثل الشيبسي بطعم الكباب الذي توقف أمامه كثيرا المجتمع المسيحي ليتساءل تساؤلات لاهوتية، هل نكهة الكباب صناعية أم تحتوي بالفعل علي الكباب؟ حيث أن تلك النكهة هي الفاصل بين تنعم المسيحي في الجنة أو احتراقه للأبد في الجحيم. ويستمر التحايل أثناء شهر رمضان »مما قد يضطر المسيحي في هذه الحالة إلي ممارسة طقوسه الغذائية والمزاجية في الغرف المظلمة المهجورة أو علي سلم الطوارئ أو تحت المكتب أو في الكابينيه» أما إذا تزامن مع فترة الصيام المسيحي وهذا ما يحدث كثيرا، وما يترتب عليه هو أن الأقباط سوف يصومون صيامهم وصيام رمضان في الوقت نفسه». في هذا الفصل، مأكولات رمضانية للأقباط، تظهر ثورية عقل المبكرة. حيث قرر أن يتناول ساندوتش الدجاج علي طريقة الكوردون بلو بنهار رمضان في فسحة المدرسة. كان يوم الرفاع وهو آخر أيام الإفطار قبل فترة الصيام الكبير الذي يمتد لخمس وخمسين يوماً. ظل الساندوتش في جعبته طوال اليوم لا يفكر إلا فيه وحين جاءت الفسحة أخرج جريمته وأخذ يلوكه ببطء وتلذذ مستمتعاً بتلك الثغرة الأخلاقية وغير عابئ بالصيام الطويل الذي ينتظره. ويسجل شارل تلك اللحظة قائلاً: »لو لم أكن قد ولدت في عائلة قبطية ولم أعتد الصيام وإذا لم أبالغ في الحرص الأخلاقي علي مشاعر الآخرين وإذا لم أجرب أكل الساندوتشات في الحمام وإذا لم أمتنع عن تناول الطعام صباحاً وأكل الخضراوات القرديحي مساءً وإذا لم أشعر بالدونية وعدم المساواة وإذا لم أكن قبطيا في مصر وكل زملائي من المسلمين الصائمين، لما تذوقت أفضل ساندوتشات الدجاج». في النصف الثاني من الكتاب يتطرق عقل إلي الأكلات الخلافية وهي لحم الخنزير والخمور، وهي الكاشفة عن صفةالتسامح التي تسود المجتمع المصري والتي تروج باعتبارها فضيلة، يقول عقل عنها »كلمة مفخخة بالعداوة والعنف والطائفية تتضمن في مدلولها فكرة العفو وفكرة التحمل ومنها إلي منح ووهب الحرية. فهي تعني أنه يوجد طرف أفضل من الآخر، طرف صحيح والآخر مخطئ». يظهر الغضب مع بداية الفصل، عندما شرح عقل بالتفاصيل الكاملة طريقة تسوية لحم الخنزير ولمست التلذذ في كل تفصيلة أشار إليها وكأنه يقصد أن يكون مستفزا لكل قارئ يشمئز من ذكر الخنزير ولحمه. ثم يشير إلي فئة اجتماعية جديدة وهي الأقباط المتأسلمون »أي الأقباط الذين ينظرون لأنفسهم بنظرة تقييم إسلامية» ونشأت من طول المجاورة مع المسلمين في منطقة الشرق الأوسط حتي إنهم توقفوا مؤخرا عن شرب الخمر وأكل الخنزير. يتحدث بتعجب عن حرص أمه من معرفة الجيران انهم يأكلون لحم الخنزير ويقول »المشكلة أكبر من مجرد اختلاف في العادات الغذائية» يظهر هنا بوضوح الضيق الذي يعيش فيه أقباط مصر واضطرارهم لتغيير هويتهم المطبخية والتنازل عن حق شخصي لا يهم أحدا سواهم في تناقض مع مثل مصري أصيل »كل اللي يعجبك وألبس ال يعجب الناس». فلقد توقف الأقباط عن أكل ما يعجبهم حتي يرضوا الطرف الأكبر ويستريحوا من التساؤلات والهمهمات والنظرات الفضولية. حتي أسرته، ظلت في كل مناسبة كلما سئلوا عن رأيهم في مذبحة الخنازير الوحشية التي تمت في مصر عام 2009، »يرددون الإجابات نفسها وكأنه خلل ميكانيكي قد أصاب أدمغتهم أو إنه من فرط الضغط النفسي قد أصيبوا بلوثة عقلية ليقولوا بدون تفكير مكررين: بس احنا أصلا مش بناكل خنزير.. حتي لا يبدو في اعتراضهم علي هذه المهزلة وكأنهم في سعي شهواني للدفاع عن طاجن خنزير بالبطاطس وليس عن أحقية كل إنسان بتناول ما يحلو له أو علي الأقل بعدم قتل كائنات بهذه القسوة». ترتفع حدة صوت عقل في الفصل الخاص بالخمور. فهو ليس غاضبا فحسب من الآخر المسلم الذي يحشر نفسه فيما يأكله الناس وفيما يفضلونه، لكنه غاضب كذلك من بني دينه الذي يؤكد دوما علي قطيعته معه أو علي الأقل علي كونه »غير متدين»، يقول: »أصبحت الهوية القبطية المسيحية في مثل هذه الظروف رمادية، متواضعة، منطوية، تنزع إلي عدم الصخب أو الاختلاف الظاهر الذي يجلب المساءلة والمشاكل... وقد طور الأقباط علي مدار التاريخ أسلوبا خطابيا خاصا بهم ليكون غير حاسم في أي موقف علي الإطلاق. وتخصصوا في ردود مموهة لا يمكن الخروج منها بأي »استنتاج» ويقول في موضع آخر: »شخصيات المسيحيين الانهزامية المتحفظة الخانعة الباردة، المتجنبة للصدامات، غير السياسية، غير الاجتماعية، غير المكترثة، عديمة التذوق، متبلدة المشاعر، مبتورة الأعضاء، التي لا تهتم بأكل ولا شرب ولا صحبة ولا جنس». تخيل هذا الوضع عند عرض القبطي لموضوع خلافي مثل الخمر؟ يتحدث عقل في عدة مواقع عن المسيح الشغوف بالطعام والشراب والذي يحب اللمة والجلسات الودية حتي أن معاصريه تعجبوا من إسرافه في الطعام والشراب. عن مشهد العشاء الأخير الذي جمع فيه أصحابه ليأكلوا ويحتسوا الشراب ويوصي أصدقاءه بألا يتوقفوا عن المقابلة والاجتماع والأكل والشرب ولا ينسوا ذكراه، علي عكس التراث المسيحي الذي ينكر فكرة الفرح والاحتفال ويقرنها بالندم وتقريع الذات.ويبدو أن علاقة المسيحيين بالخمور التي امتدت علي مدار التاريخ في طريقها للانهيار في العقود الأخيرة نظرا للاحتقان الديني المتزايد في الشرق الأوسط. ويستمر عقل في استفزازه للقارئ المسلم المتدين المحافظ في فصل الخمور بدعوته لتناول كأس من الخمر في صحة كل الأمثلة التي ذكرها لشخصيات اختفت من حياتنا ولم يعد لها وجود أو علي أقل تقدير توارت عن الأنظار ومارست أبسط حقوقها في الخفاء. كل ما يحكيه شارل عقل في هذا الكتاب الساخر الواعي بالمجتمع المسيحي وتغيراته المتعددة في ظل مجتمع مسلم أصبح متشدداً بشكل غير مسبوق، لا يدل إلا علي غربة يعيشها الأقباط في وطنهم. رغم تنوع المطبخ المسيحي ليشمل كل أنواع الطعام والشراب علي عكس الديانتين اليهودية والإسلام المنتشرتين في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنهم، المسيحيون، يعيشون غرباء.فليس من حقهم مثلا »أكل ما يعجبهم» في الوقت المناسب لهم إلا بعد الأخذ بالمحاذير والتحايل علي نظامهم الغذائي من ناحية وعلي المجتمع المسلم من ناحية أخري. ذكرني الكتاب بشدة برحلة عابرة لمدينة أوروبية، زرتها وفي أحشائي جنيني الثاني فكنت في حاجة للطعام وللكثير منه علي مدار الساعة لسد جوعي المناسب لمرحلة الحمل الأخيرة. كانت غربتي الغذائية غالبة علي غربة اللغة والصحبة. حيث كنت أسير في كل مكان أبحث عن ما هو حلال وسط الأرفف في السوبرماركتات وبين أطباق الأوبن بوفيه في الفنادق. والنادلة التي سارت خلفي لتذكرني كلما هممت بتناول أحد قطع اللحوم لأضمها لطبقي بأنها لحم خنزير فأتراجع عنها. سواء اتسع مطبخك ليشمل طعام العالم أو ضاق ببعض الأطعمة وطردها خارجا، ستشعر بغربة طالما أنت أقلية في وسط أغلبية تفرض نظامها عليك. فما بالك أن تكون في وطن لك ولست ضيفا عابرا بطائرة؟