وكأن الطريق الذي تقطعه الدماء من القلب إلي الوريد ليس هو نفس الطريق الذي تعود فيه الدماء للقلب من جديد. كأن الدم في رحلة العودة يصير ماء.. أو أن القلب عند المصب يصبح حجراً.. فمن لخبط الرحلة هكذا؟ ومن ضيع علامات الطريق؟ ولماذا يصبح القاهري المسافر للصعيد غير الصعيدي المرتحل إلي القاهرة؟ هل لايستوي الجمعان؟ المصري والصعيدي؟ وكيف تفرط عينا القاهرة هنا في دمعها المسكوب فوق بلاد الجنوب؟ ولماذا لا تتألم مصر فقط إلا من وجع قلبها؟ أما أطرافها المتيبسة فلا حس ولا خبر. لو فكر القاهري في السفر للصعيد فبالتأكيد هو في رحلة سياحة إلي محافظتي الأقصر وأسوان.. أما نجوع وقري وأزقة قنا وأسيوط والمنيا وحتي الفيوم فلن يطرق بابها إلا عند موت قريب أو زيارة بعيد يوم عيد. لكن للصعيدي في سفره إلي بلاد القاهرة ألف سبب وسبب أبسطها لو أراد الترويح عن نفسه فهو في رحلة سياحة وشوق لمشاهدة الشوارع الكبيرة والسينمات والمترو والأهرامات والنساء اللواتي لايرتدين الحجاب. لكن أهم وأعظم أسباب ارتحاله للشمال القاهري هو العمل ومحاولات الالتحاق بالوظائف الكبري أو المهمة أو الشهيرة أو قطاعات العمل الخاص.. ناهيك عن الذين يأتون للعمل كبنائين أو بوابين. فأنت تري أن معظم رموز الفن والثقافة والسياسة والدين من أصول صعيدية ويعيشون في القاهرة.. فعبدالناصر (الأسيوطي) حكم مصر من القاهرة مقر الحكم منذ العصر الحديث بعد أن كانت كل عواصم مصر القديمة في بلاد الجنوب. حتي رفاعة الطهطاوي وطه حسين وبهاء طاهر وجمال الغيطاني وسناء جميل وتوفيق الدقن جميعهم صعايدة أناروا فوانيس القاهرة.. حتي أولئك الذين قتلوا السادات جاءوا من المنيا وفعلوها في القاهرة. كل الأفراح والأتراح التي تبدو علي جسد الوطن المصري أساسها صعيد مصر.. يعتقد الساسة والقائمون علي شئون الوطن أن البعيد عن العين بعيد عن القلب.. وهذا صحيح.. لكن البعيد عن العين يصدر كل أزمات ومشكلات بيئته إلي قلب الحكم وليس آخرها حادثة نجع حمادي فقد سبقتها أزمات عظمي وكثيرة.. ويعتقد القاهريون أن الصعيد لا يصدر لهم غير النكت.. فلماذا تبدو لنا بوضوح أن آخر نكت الصعايدة دم؟ وأنت إذ تتفقد أحوالهم سوف تجدهم يستيقظون مبكرا وينامون (من المغرب) فلا عمل إضافي ولا مكان يذهبون إليه غير بيوتهم: لاسينما ولا مسرح ولا معرض ولا مهرجان ولا منتدي.. لاشيء سوي الجامع أو حلقات تجمع الجماعات الدينية. بالطبع يختلف الأمر كثيرا في محافظتي الأقصر وأسوان حيث الأماكن السياحية التي تجذب المصريين الشماليين والأجانب معا.. مما جعل الحياة في أقصي صعيد مصر حافلة بالعمل والسهر حيث شركات السياحة ومحال بيع التذكارات والمقاهي.. وهو ما جعل هاتين المحافظتين يسهر ليلهما الناس بل يجد شبابهما الكثير من العمل. والاختلاف في محافظتي الجنوب ليس فقط في قدرة شبابها علي العمل بل في التغيير الجذري لنمط الحياة عموما.. فالرجل هناك لاينظر للمرأة تلك النظرة الدونية التي يراها عليها رجال المنيا وأسيوط فقد غيرت المرأة الأوروبية الوافدة طوال العام علي الأقصر وأسوان من مفهوم وقيمة المرأة بشكل عام.. بل إنك سوف تجد أن أكثر زيجات الأسواني والأقصري من أجنبيات سافرات وهو ما يرفضه (الأخوة) في المنيا وأسيوط حيث يفضلون المنتقبة أو (المختمرة). ولو سألت نفسك سؤالا بسيطا آخر لماذا لاتقوم وزارة الثقافة بتوزيع بعض مهرجاناتها الكثيرة علي محافظات الصعيد لن نجد إجابة.. فمهرجانات وكرنفالات السينما والمسرح وغيرها من الممكن أن يقام بعضها في الصعيد ومن الممكن أيضا أن تفرض وزارة الثقافة وجودها حتي من خلال فتح دور السينما المغلقة منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد انتشار الفكر الديني المتشدد وهجومه الدائم علي دور السينما والمرأة السافرة. ليس هذا فقط بل لابد أن يمنح محافظو الصعيد سلطات أكبر لتسيير نظم حياة الناس هناك بحيث يتيسر عليهم إيجاد فرص عمل لآلاف الخريجين (القابعين) في بيوتهم بعد التعليم الجامعي حيث لن يجدوا عملا غير إطلاق اللحي أو إطلاق الرصاص.