«مصر للطيران» تنقل 286 مصريًا عالقين في لبنان إلى أرض الوطن.. صور    شهيدان فلسطينيان بينهما رضيعة وإصابة 11 آخرين جراء قصف إسرائيلي على بيت لاهيا    والد بلعيد يكشف حقيقة فرض وكلاء على نجله.. ويعلق على موقف أمير توفيق    ريال مدريد يفوز على فياريال بثنائية في الدوري الإسباني    بلحاج: سيراميكا كليوباترا جاهز لمواجهة الأهلي..وقادرون على التتويج بالسوبر    حمد إبراهيم: أثق في لاعبي الإسماعيلي..ويجب أن نكون على قلب رجل واحد    مدحت شلبي: نجم الأهلي يهدد بالرحيل    قبل عرضه.. تعرف على تفاصيل فيلم آل شنب    أمين صندوق الأطباء للمحافظين: ما الفائدة من التصالح في عيادات وضعها مقنن من الأساس؟    رئيس " الحرية المصري": انتصارات أكتوبر ستظل علامة بارزة في تاريخ العسكرية المصرية    حدث في منتصف الليل| حقيقة تعرض البلاد لشتاء قارس.. وأسباب ارتفاع أسعار الدواجن    قصف وإنذار للسكان بالإخلاء.. بيروت تشهد أقوى غارات إسرائيلية منذ بدء التوغل    وزير الخارجية الإيراني: أي اعتداء على إيران سيواجه برد أقوى    ميتروفيتش يقود الهلال للفوز على الأهلي في الدوري السعودي    سائق قطار يرشد عن أشلاء جثة على قضبان السكة الحديد في سوهاج    مصرع 3 عناصر إجرامية في تبادل إطلاق النيران مع الشرطة بقنا    البيع تم قبل شهور.. مصدر مقرب يكشف مصير مطعم صبحي كابر    أجواء معتدلة وشبورة مائية.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الأحد بدرجات الحرارة    صافرات الإنذار تدوي في عدة مناطق بشمال إسرائيل    أحمد السقا يشارك ابنة علاء مرسي رقصة رومانسية في حفل زفافها (صور وفيديو)    ريهام أيمن أمام حمام السباحة و"سيلفي" مايان السيد وهيدي كرم.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| علاء مرسي يبكي في فرح ابنته وأخرى تجري عملية جراحية وحقيقة وفاة إعلامي شهير    استئصال ورم كبير من قلب مريضة بمستشفى جامعة أسيوط    أحمد ياسر يكتب: إسرائيل بين أجندة التوسع وفشل المجتمع الدولي    كنيسة الروم بلبنان لأهل الجنوب: نحن بحاجة للتمسك بأرض أجدادنا لا تتركوا أرضكم ودياركم    عرض «فرص الاستثمار» على 350 شركة فرنسية    قفزة في سعر الفراخ البيضاء والبلدي وثبات كرتونة البيض بالأسواق اليوم الأحد 6 أكتوبر 2024    عيار 21 الآن يواصل انخفاضه.. أسعار الذهب بالمصنعية اليوم الأحد 6 أكتوبر 2024 بالصاغة    "نيويورك تايمز" ترصد تأثيرات صراع الشرق الأوسط على الاقتصاد العالمي    الحكومة تحذر من استغلال مزايا استيراد سيارات ذوي الهمم    أحمد عبدالحليم: الزمالك استحق لقب السوبر الإفريقي و«الجماهير من حقها الفرحة»    «مرموش» يقود آينتراخت أمام البايرن للانفراد بالصدارة    رئيس شعبة الدواجن يكشف سر ارتفاع أسعار الفراخ    هل ستلغى معاشات الضمان الاجتماعي؟.. التضامن توضح    تعيينات وتنقلات جديدة للكهنة في مطرانية الأردن للروم الأرثوذكس    نائبا رئيس الوزراء أمام «النواب» غدًا    ننشر صورة طالب لقي مصرعه إثر تصادم موتوسيكل وملاكي بقنا    جوجل والجنيه.. دعم ل«الصناعة المحلية» أم عقاب لصنّاع المحتوى؟    رقم قياسي جديد لرحلات البالون الطائر في سماء الأقصر    تحرير 4 محاضر مخالفات تموينية بسيدي غازي    رابع مُنتج للمشروبات في العالم يبحث التوسع في السوق المصرية    قصة تريند بيع مطعم صبحي كابر.. «الطلبات شغالة وانتظروا فيديو للحاج» (صور)    إعلام لبناني: صعوبات في وصول الإطفاء والدفاع المدني لأماكن الغارات الإسرائيلية    الرئيس الأوكراني: الأسبوع المقبل ربما يكون إيجابيا بشأن دفاعاتنا    أعشق السينما ومهمومة بكل تفاصيلها.. كلوديا حنا عن مشاركتها كعضو لجنة تحكيم بمهرجان الإسكندرية    «المضل» في بني سويف تضم «مزامير» داود وكنوزًا زاخرة    محمد أنور: «ديبو» أول مسلسل مصرى تدور أحداثه فى فندق للحيوانات ونجاحه نقلة فى مشوارى ( حوار )    وائل جسار: عايشين حالة رعب وخوف في لبنان.. ودعم مصر مش جديد علينا    الأردن يرحب بدعوة ماكرون وقف تصدير أسلحة للاحتلال تستخدم في حرب غزة    نقيب الأطباء: الطبيب في مصر متهم حتى تثبت براءته عكس كل المهن    المصل واللقاح: موسم الخريف شهير بالعدوى التنفسية وأسوأ من فصل الشتاء    رمضان عبدالمعز: الاحتفال بنصر أكتوبر مهم لأنه أمر إلهي    الصحة: فريق الحوكمة والمراجعة الداخلية يتفقد مستشفى الغردقة العام ويحيل واقعة تقصير للشئون القانونية    تناول الطعام في الوقت المناسب يقلل من الإصابة بمرض السكري    رئيس جامعة الأزهر: الله أعطى سيدنا النبي اسمين من أسمائه الحسنى    إشراقة شمس يوم جديد بكفر الشيخ.. اللهم عافنا واعف عنا وأحسن خاتمتنا.. فيديو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 5-10-2024 في محافظة البحيرة    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى رحلته من الشك الى الإيمان د . مصطفى محمود يكتب : العدل الأزلي
نشر في صباح الخير يوم 07 - 12 - 2010

الذي رأي قطة تتلصص علي مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأي مثل تلك القطة ونظر إلي عينيها وهي تسرق لن ينسي أبدا تلك النظرة التي ملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعورا مبهما إنها ترتكب إثما.. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة علي رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها، وكأنها تدرك إدراكا مبهما أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولي الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق.. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتي في الحيوان الأعجم.
والكلب إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتي يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل علي إحساس بالقبح وعلي المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضا فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم.. وإنما بهذه الفطرة ولد كل الكلاب.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل.. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدرا من الخلف وإنما دائما من الأمام ومواجهة.. ولا يتفرس إلا ليأكل.. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولي للضمير.. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية.. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب.. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل علي شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة.. وأن هناك عدالة.. وإن كل واحد فينا مطالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها.. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلي العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلي المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين وبحساب وانضباط.
حتي الإلكترون لا ينتقل من مدار في فلك النواة إلا إذا أعطي أو أخذ حزما من الطاقة تساوي مقادير انتقاله وكأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلا إذا دفع ثمن التذكرة.
وميلاد النجوم وموتها له قوانين وأسباب.
وحركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة.
وتحول المادة إلي طاقة وتحول جسم الشمس إلي نور له معادلة.
وانتقال النور له سرعة.
وكل موجة لها طول ولها ذبذبة ولها سرعة.
كما أن كل معدن له طيف وله خطوط امتصاص مميزة يعرف بها في جهاز المطياف.
وكل معدن يتمدد بمقدار ويتقلص بمقدار بالحرارة والبرودة.. وكل معدن له كتلة وكثافة ووزن ذري ووزن جزيئي وثوابت وخواص.
وإينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم وسرعته.. وبين الزمن ونظام الحركة داخل مجموعة متحركة.. وبين الزمان والمكان.
والذي يفرق المواد إلي جوامد وسوائل وغازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها.
ولأن الحرارة تعجل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد وتحولها إلي سوائل ثم تبخر السوائل وتحولها إلي غازات.
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين.. كما يتحرك التيار الكهربائي ويفعل ويؤثر علي أساس من فرق الجهد والشدة.
كما تتوقف جاذبية كل نجم علي مقدار جرمه وكتلته.
والزلازل التي تبدو أنواعا من الفوضي لها هي الأخري نظام وأحزمة وخطوط تحدث فيها ويمكن رسم وتتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة الأرضية وعرضها.
والكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها ولا خداع.
سوف يرتفع صوت ليقول : وما رأيك فيما نحن فيه من الغش والخداع والحروب والمظالم والفوضي وقتل بعضنا بعضاً بغيا وعدوانا.. أين النظام هنا؟
وسوف أقول له : هذا شيء آخر.. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا علي الأرض وأقامنا ملوكا نحكم وأعطانا الحرية.. وعرض علينا الأمانة فقبلناها.
وكان معني إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ والصواب. وكل ما نري حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي أسأنا استعمالها.
إن الفوضي هي فعلنا نحن وهي النتيجة المترتبة علي حريتنا.
أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط والنظام.
ولو شاء الله لأخضعنا نحن أيضا للنظام قهرا كما أخضع الجبال والبحار والنجوم والفضاء. ولكنه شاء أن ينفي عنا القهر لتكتمل بذلك عدالته.. وليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته.
أراد بذلك عدلا ليكون بعثنا بعد ذلك علي مقامات ودرجات هو إحقاق الحق ووضع كل شيء في نصابه.
والحياة مستمرة.
وليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة.
ومعني هذا أن هذه الفترة الاعتراضية من المظالم والفوضي هي فترة لها حكمتها وأسبابها وأنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبدا.
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها وما قبلها، وهي ليست كل الحقيقة ولا كل القصة.. وإنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولا.
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخبارا عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة.. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجودا داخليا متعاليا علي التغيرات مجاوزا للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن علي أكبر العقول وعلي أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان علي البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف علي أساسه، إن هناك نظاما محكما وقانونا وعدلا.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطريا وغريزيا بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبدا ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها.. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها علي عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نري ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نري كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلا.. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضبا علي ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلي الماء يدل علي وجود الماء فكذلك الظمأ إلي العدل لابد أنه يدل علي وجود العدل.. ولأنه لا عدل في الدنيا.. فهو دليل علي وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي علي أن العدل حق.. وإن كنا لا نراه اليوم..فإننا سوف نراه غدا.. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا.. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيرا والكلب كلبا.. والحشرة حشرة.. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق علي تلك الصورة المنحطة.. وأين العدل هنا؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلا نصف القضية.. أو سطرا واحدا من ملف التحقيق.. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيرا لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد علي تلك الصورة.. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي. صعودا وتطورا وتساميا وكدحا إلي الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضا.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات.. وأن الله خلق الخنزير خنزيرا لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فطرنا في الكتاب من شيء ثم إلي ربهم يحشرون ) (الأنعام - 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تحشر كما نحشر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها.. فهو غيب.. وتطلع إلي محجوبات.. وفضول لن نجد له جوابا شافيا.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول علي أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله.. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب.. فإن الله لا يكون ربا ولا إلها ملهما مدبرا بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا علي صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلي الجهد كل الجهد وإلي الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلي التهافت.. لأنه لا يقوم علي أساس.. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة.. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلي وقفتها الخاشعة علي أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متدينا في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره.. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة.. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تدينا.
وإنما التصور الحق لله.. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)
(فاطر - 24)
و(لقد بعثنا في كل أمة رسولا)
(النحل - 36)
( وما كان ربك مهلك القري حتي يبعث في أمها رسولا )
( القصص - 59)
( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك)
( النساء - 164)
ومعني هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولا.. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف.. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي.. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا.. في خشوع ومحبة.. مؤمنا بكل الكتب وكل الرسل.. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة. كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم علي دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقا له وحده وهاديا له وحده أو لفئة وحدها.. وإنما هو نور السموات والأرض.. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه.. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور.. وهذا مقتضي عدله الأزلي.. وهذا هو المعني الجدير بالمقام الإلهي.. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متدينا.
أما الأديان التي تنقسم شيعا يحارب بعضها بعضا باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذبا.. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة.. تحارب للغرور.. وإن ظنت أنها تحارب لله.. وهي هالكة، الغالب فيها والمغلوب.. مشركة.. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابدا لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمي. وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدني.
وهذا هو الطريق.. والصراط.. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبري إلي الحق.
د. مصطفي محمود
رحلتي من الشك إلي الإيمان 1970


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.