المشاط: قطاع المياه والصرف استحوذ على حوالي 50% من مخصصات حياة كريمة    البنك الأهلي المصري يكرم هشام عكاشه وأعضاء مجلس الإدارة بعد انتهاء مدتهم    يحتل المركز الأول.. تعرف على إيرادات فيلم "عاشق" لأحمد حاتم أمس في السينمات    التشكيل النهائى لهيئات مكاتب اللجان النوعية بمجلس الشيوخ    ضمن "مبادرة بداية".. جامعة بنها تنظم قوافل توعوية وتثقيفية بمركز شباب كفر عابد    رئيس وزراء ولاية بافاريا الألمانية: مصر شريك أساسى لنا ودعامة الاستقرار بالمنطقة    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات سكن لكل المصريين بعدد من المحافظات والمدن الجديدة    "وفا": 42 ألف شهيد وانهيار لمنظومات الصحة والتعليم والبنية التحتية    فلسطين تدين الاستهداف الإسرائيلى الممنهج للأمين العام للأمم المتحدة    اتفاق بين منتخب فرنسا والريال يُبعد مبابي عن معسكر الديوك في أكتوبر    الرئيس السيسي يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الحرب الروسية الأوكرانية| تصعيد جديد أم بداية الحسم؟.. فيديو    الزمالك يهزم تاوباتى البرازيلى 30-24 فى ختام تحديد مراكز كأس العالم لأندية اليد    استدعاء ثنائي بيراميدز الشيبي وماييلي لمعسكر منتخب بلادهما المغرب والكونغو    يوسف أوباما يرزق بابنه "ياسين"    اجتماع بين الأهلي وفيفا لبحث ترتيبات مباراة العين ب كأس الأنتركونتننتال    يوفنتوس يحقق رقما تاريخيا فى دورى أبطال أوروبا    جوميز يخطر الزمالك برحيل رباعي الفريق    حبس سائقين لاتهامهما بسرقة مبالغ مالية من شركة فى المعادى 4 أيام    أمطار ورعد وبرق.. منخفض جوى يؤثر على حالة الطقس والأرصاد تكشف التفاصيل.. فيديو    تأجيل محاكمة مجدى شطة بتهمة حيازة مخدر الآيس للدور الأخير من شهر أكتوبر    فروع "خريجي الأزهر" بالمحافظات تشارك بمبادرة "بداية جديدة لبناء الإنسان"    رئيس جامعة القناة يشيد بمشاركة معهد كونفوشيوس بمهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية    تتويجا لرحلته الفنية.. مهرجان الإسكندرية السينمائي يحتفي بتاريخ الفنان لطفي لبيب    بدلاً من العزلة.. 3 أبراج تعالج قلوبها المحطمة بمساعدة الآخرين    افتتاح وحدة جديدة للعناية المركزة بمستشفى رأس التين بالإسكندرية    رئيس جامعة عين شمس: نضع على رأس أولوياتنا تنفيذ توجهات الدولة لتطوير القطاع الطبي    لطفي لبيب يكشف عن سبب رفضه إجراء جلسات علاج طبيعي    السيسي يؤكد دعم مصر لرئاسة موريتانيا الحالية للاتحاد الأفريقي    تفاصيل عروض برنامج «فلسطين في القلب» بمهرجان الإسكندرية السينمائي    الأمن يكشف لغز العثور على جثة حارس ورشة إصلاح سيارات مكبل في البحيرة    قرار عاجل من مدير تعليم الجيزة بشأن المعلمين    سر مثير عن القنابل الإسرائيلية في حرب أكتوبر    حلاوة رئيسًا للجنة الصناعة والتجارة بمجلس الشيوخ    «مش بس أكل وشرب».. جهود مكثفة من التحالف الوطني لتقديم الرعاية الصحية للأكثر احتياجا    لحسم الشكاوى.. وزير العدل يشهد مراسم إتفاقية تسوية منازعة استثمار    التموين تكشف حقيقة حذف فئات جديدة من البطاقات    محافظ كفر الشيخ يتابع سير العمل بالمركز التكنولوجي ومنظومة التصالح بالرياض    فى احتفالية كبرى، الأوبرا تحتفل بمرور 36 عامًا على افتتاحها بمشاركة 500 فنان    بعد إعلان اعتزالها.. محطات في حياة بطلة «الحفيد» منى جبر    مجلس الشيوخ.. رصيد ضخم من الإنجازات ومستودع حكمة في معالجة القضايا    ضبط 17 مليون جنيه حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    الصحة: تطعيم الأطفال إجباريا ضد 10 أمراض وجميع التطعيمات آمنة    «التضامن» تشارك في ملتقى 57357 للسياحة والمسئولية المجتمعية    نائب وزير الصحة يوصي بسرعة تطوير 252 وحدة رعاية أولية قبل نهاية أكتوبر    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    ب367 عبوة ل21 صنف.. ضبط أدوية بيطرية منتهية الصلاحية في حملات تفتيشية بالشرقية    بالفيديو.. استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل بلبنان    الحالة المرورية اليوم الخميس.. سيولة في صلاح سالم    4 أزمات تهدد استقرار الإسماعيلي قبل بداية الموسم    جيش الاحتلال يزعم الهجوم على 200 هدف لحزب الله    مدبولي يُهنئ الرئيس السيسي بالذكرى ال51 لانتصارات أكتوبر المجيدة    حكم الشرع في أخذ مال الزوج دون علمه.. الإفتاء توضح    كيفية إخراج زكاة التجارة.. على المال كله أم الأرباح فقط؟    هانئ مباشر يكتب: غربان الحروب    محافظ الفيوم يُكرّم الحاصلين على كأس العالم لكرة اليد للكراسي المتحركة    تعدد الزوجات حرام.. أزهري يفجر مفاجأة    فوز مثير ل يوفنتوس على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سمير عبدالباقي يكتب: كليلة ودمنة المصرية
نشر في الدستور الأصلي يوم 27 - 08 - 2010


«كان يا ما كان»..
الجملة السحرية التي تفتح الطريق إلي العقل والقلب.. بوابة درب الغد حيث الفردوس المفقود، والمعقود عليه الأمل الرحب لإقامة سلطة العدالة والحب والجمال والحرية ولو في الخيال.
وهنا حكايات سمعت بعضها من طفلة في إحدي قري الشرقية أو من عجوز حكيم في إحدي عزب الدقهلية أو نورت بها قلبي الصغير خالتي الست أم يوسف، أو قرأتها في كتاب لأحد مبدعي الحكايات العظام «لقمان وأيسوب وابن المقفع وكريلوف ودافنشي والجاحظ وابن الجوزي.. وغيرهم، حاولت أن أصنع منها دراما حديثة لونتها بقليل من ألوان أحلامي.. ولأن الأطفال في بلادنا يكبرون فجأة، أو هم كبار بحكم الظروف ولأن الكبار أو معظمهم كذلك هم «صغار» بحكم السلوك، قدمت هذه الصياغة لهم جميعاً رغبة في ممارسة حلم قديم راود الحكائين عبر التاريخ في كسر شوكة الجبارين بمساعدة هذا الحشد من الشخصيات «تعاليبو، مشكاح وأبولبدة المدهش وبولينياب وبولشناب وبس بس ورماح وحشد كبير من الحمير والثعالب والأرانب والفيلة وغيرهم، في دراما تسجيلية إنسانية تكشف ألاعيب الأغبياء والأشرار والشرهين من بني الإنسان من أجل عالم أفضل ومن بني الحيوان من أجل غابة أعدل.
حكاية القط مشكاح والفأر رماح
3
في مهمة رسمية
أشرقت شمس اليوم التالي جديدة ورائعة، فأصبحت حركة القط أهدأ وأرق، بل لقد شاهدته الشمس يتمطي في الفراش طويلاً في كسل، دون أن تراوده أدني رغبة في مغادرته، كان القط بعد أكلة الأمس اللذيذة قد نسي تماماً أنه سجين ومتهم ينتظر الإعدام عقاباً علي تطاوله علي الامبراطور «أبولبدة المدهش»، وبلغ من نسيانه لواقع الأمر أن ابتسم من أعماقه وهو يسترجع كل ما حدث في الأيام القليلة الماضية وحتي عندما تذكر كل شيء، ظلت ابتسامته المطمئنة تتسع وتزداد عمقاً حتي تحولت إلي قهقهة عريضة هانئة حين وصلت به ذاكرته إلي ما حدث بالأمس..
وهي حالة نفسية يمكن أن يتولي دراستها المهتمون، بتأثير لحم الفئران المتبل إيجابياً علي القطط السجينة في السجون الامبراطورية.
وعلي ما يبدو لم يكن ذلك غائباً عن ذهن صاحبنا الفار صاحب الغليون الذي زاره بالأمس وزوّده بالطعام، وعقد معه اتفاقاً غامضاً وافق عليه القط بكل حماس جائع ينتظر الإعدام، دون أن يعرف شيئاً عن أهدافه، أو شروطه، وعواقبه!
مر الوقت عادياً كعادته في كل صباح سعيد، إلا أنه بعد فترة بدأ في التباطؤ مع صعود الشمس إلي كبد السماء.. وأخذ في المرور بتثاقل متعمد تحت أنف القط وبصره.. ونحن نعرف أن للوقت أحوالاً غريبة وطباعاً متقلبة، فأحياناً يمضي دون أن يلفت أنظار القطط أو بني الإنسان، لكنه في أحيان أخري كما تأكد «مشكاح» الآن تطول فيه الدقائق وتقف الثواني في بلادة ترفض التقدم وتمتنع عن دفع بعضها البعض كعادتها في الأيام العادية، كانت تتعمد إغاظة القط، فحاول جاهداً ألا يغتاظ شاغلاً نفسه بأشياء كثيرة سرعان ما كانت تفشل في صرف نظره عن مرور الوقت البطيء الثقيل إلي الدرجة التي وجد نفسه يكاد ينشق غيظاً.
وفي الحقيقة أن ما يضايقه لم يكن بطء الوقت، ولكن لأنه كان يتوقع زيارة ما هذا الصباح.. كان يتوقع أي شيء إشارة، أو رسالة تؤكد أن اتفاق الأمس قد حدث بالفعل، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث فازداد الوقت بطئاً وثقلاً.
وحينما ارتفعت الشمس في السماء أسقطت بضع مربعات ضوئية حادة علي أرض الزنزانة وكأنها تتحداه وتجبره علي تذكر أن الظهر قد ولي.. بدأ القلق يساوره بشدة.. خاصة أنه قد أتم هضم الطعام تماماً وأفرغت معدته أثقالها، وعاوده سعار الجوع أقسي وأشد نباحاً مما كان عليه الحال قبل أطباق الفئران المتبلة والمحمرة اللذيذة.
فقفز من فراشه غاضباً وراح يروح ويجيء حول محيط الزنزانة تارة أوفي دوائر منتظمة وغير منتظمة تارة أخري.. أوفي خطوط مستقيمة تارة ثالثة.. (وعادت ريما لعادتها القديمة) لقد فقد كل شعور استثنائي بالاطمئنان وعاد إليه الإحساس العادي لقط ينتظر الإعدام.
وفكر أن يطلب الحارس ليستفسر منه عن سبب التأخير ولكنه وجد في ذلك حماقة كبري.. لأن ما حدث بالأمس كان مخالفة لكل التعليمات واللوائح التي يفترض أن يراعيها الحراس.. فالزيارة ممنوعة، والاتصال بالسجناء محرّم، فما بالك بتناول لحم فئران متبل في عقر سجن العرين.. الذي يعتبر مجرد التفكير في صيد الفئران جريمة شنعاء.. منذ أن نالوا الحظوة الكبري لدي الامبراطور وفتحت أمامهم أبواب الوظائف والمراكز الكبري بعد أن كانوا أكثر صعاليك الغابة احتقاراً وإثارة للقشعريرة!!
هدأ «مشكاح» عندما اعترف بحماقة موافقته علي تناول طعام مكوّن من لحم الفئران في زنزانته، حتي ولو كان الذي أحضره فأر رسمي يتباهي بغليونه وردائه الرسمي.. إنها جريمة بكل المقاييس وعليه أن يبتلع غضبه وقلقه ويحمد الله علي أن كل ذلك لم ينكشف.
لكن الجوع اشتد عليه وقرص أمعاءه بشدة فخرجت أنفاسه حارة تعكس اشتداد غضبه وقلقه.. وأخذ يقسم أمام النافذة المسيجّة بالقضبان أنه سيلغي اتفاقه مع ذلك الفأر إن لم يصله خبر ما.. أو إذا لم يحدث تطور جديد في الأمر في مدة غايتها ربع ساعة.. ثم مد المهلة إلي نصف ساعة.
ولما قاربت علي الانتهاء صار أكثر تسامحاً ومد المهلة إلي ساعة لا أكثر.. ثم أقنع نفسه بمدها حتي غروب الشمس بما أنه لا يملك ساعة ليقدر المهلة المحددة تماماً.
ثم استسلم بعد قليل وألغي كل تفكير في أي مهلة وأخذ يموء في ضعف قط جائع سجين.. وهو يراقب مربعات الضوء وهي تصعد باهتة علي الجدار كلما مالت الشمس نحو المغيب ولم تبد أي إشارة من صاحب الغليون تبشر بالأمل..
غربت الشمس وحط الظلام.. وجلس «مشكاح» متعباً محبطاً جائعاً يؤكد لنفسه أن ما حدث بالأمس لم يكن سوي حلم عابر لم يحدث في الواقع.. أو أنه إذا كان قد وقع مجرد وسيلة من وسائل التعذيب النفسي.. إذ كيف نصدق أنه من الممكن أن يسمح له بأكل فئران متبلة أو غير متبلة في سجن امبراطور حرّم صيد الفئران؟! ولمن؟.. لقط جريمته كانت الاحتجاج علي إلغاء المهنة المحرمة؟!..
تلك المهنة التي تثير ذكرياتها لعاب القطط كما يحدث له الآن.. فتثير غددهم وتفيض منها العصائر فتوتر الأمعاء وتعكر المزاج وتبعث علي الغضب ثم اليأس.. وتدفع القط المحاصر للوقوف بأرجله الأربعة علي حافة البكاء!!
وقبل أن يقرر للمرة الألف إلغاء الاتفاق الغامض مع الفأر تنبه إلي الصوت الرخيم العذب الذي أحدثه حديد المفاتيح في حديد الأبواب المغلقة، فاستيقظت كل حواسه وانتعشت آماله المحبطة.. وتنمر متصنعاً الغضب في ركنه ينتظر القادم وهويرتعش وفي داخله لهفة حاول أن يخفيها تحت الستائر الثقيلة لتصنع الغضب.. ودخل القادم.. والحقيقة أنها دخلت..
لم يكن الآتي فأر الأمس الرسمي صاحب الغليون.. لكنها كانت فأرة رسمية أكثر جمالاً وأكثر سمنة فتح لها الظربان السجانان الباب وهما ينحنيان في احترام ثم أغلقا الباب وانصرفا.
جزّ القط «مشكاح» علي أسنانه وحرّك رأسه بقوة مصفقاً بأذنيه ليتأكد أنه لا يحلم، ومنع آهة اشتهاء مفترسة من الانطلاق من بين شفتيه، واستطاع بصعوبة أن يعيدها لبلعومه ويبتلعها مع لعابه الفاضح.. واستدار طالباً تفسيراً لما يحدث، ولكن الفأرة الرسمية سكنت فترة كافية بالضبط لنفاد الصبر تماماً.. ثم تنحنحت معتذرة عن إزعاجه قائلة:
- الحقيقة أنني حضرت في مهمة رسمية.. انتعشت آماله في تنفيذ اتفاق الأمس.. ولكنها لم تذكر شيئاً عن ذلك وقالت:
- لقد أرسلوني في مهمة بغيضة لا أحبها..لقد طلبوا مني أن أكشف عليك كشفاً دقيقاً لأن القانون يفرض ألا نأخذ القطط بالشبهات.. إن سلطات التحقيق قد تخطئ عادة في مثل حالتك، لكن المحكمة تريد أن تتأكد بشكل قاطع أنك لم تخالف القانون بالفعل.. كانت تتحدث بصوت رخيم عذب ولذيذ.. أوهكذا خيّل لمعدته.. فقد كان قوامها السمين يخايل جوعه وهي رائحة غادية أمامه تترجرج كقالب من حلوي الفالوذج المصنوع من چيلي لحم الفئران علي الطريقة الفرنسية أو هكذا خيّل لأمعائه الخاوية.
كان يتابعها محاولاً منع نظراته من التفكير في لحمها فأخفي عينيه تحت كفيه بعد فشله في إسدال جفنيه.. لكن خيالها كان يخترق عظامه حتي النخاع، خاصة عندما ضحكت ضحكة فئرانية رائعة دمرت مقاومته وهي تؤكد له:
- إن عدالة امبراطورنا المرعب حقيقة ولا تقبل أخذ المواطنين بالشبهات.. لابد من الإجابة بصراحة هل خالفت القانون أم لا؟..
إن تطاولك علي الإمبراطور ليس جريمة.. المهم أن نتأكد من براءتك من تهمة أكل لحم الفئران.
علينا أن نجري بعض الفحوص لدمك ولعصارات معدتك.. لنؤكد لهم أنك لم تأكل لحم الفئران منذ صدور القانون.. وسيكون في ذلك إعلاناً لبراءتك فيطلق سراحك فوراً.. والحقيقة أن القط لم يتابع جيداً الجزء الأخير من كلامها، فقد كان رأسه يدور في البداية بسبب جوعه ورغبته القاتلة في التهامها.. ثم بدأ يدور أكثر عندما ذكرت لحم الفئران وأكله وارتباط ذلك بإثبات براءته كان الأمر أكثر تعقيداً من أن يفهمه قط في مثل ظروفه الصعبة.. خاصة وقد تجسد أمامه فداحة ما ارتكبه بالأمس بتحريض من ذلك الفأر الرسمي صاحب الغليون.
فأغشي عليه وكان هذا ما توقعته الفأرة.. فأمرت بحمله إلي حيث يمكن فحصه وتحليل دمه!
4
لا تصدني ولكن كلني
عندما أفاق من إغماءته الطويلة، وجد نفسه علي سرير أبيض نظيف في حجرة بيضاء نظيفة، لها فتحة مزخرفة تطل علي شاطئ نهر الينسون النظيف.. الذي يخترق الأحراش في أكثر مناطقها جمالاً ووحشية ونظافة.
كانت الستائر فيروزية وللملاءات البيضاء شراريب أرجوانية وعلي منضدة نظيفة ذات عجلات ثلاث كانت أطباق طعام رآها من قبل تتصاعد منها أبخرة يعرف رائحتها تماماً، فانتابه فزع قاتل جعله يقفز من مكانه ثم ينكمش مرتعشاً مندهشاً لأنهم يكررون معه ذلك، وأين؟..في المستشفي حيث من المفترض أن يكشف عن تناوله طعام لحم الفئران من عدمه.
لكن صوتاً يعرفه جاءه هادئاً أليفاً من خلف صفحات جريدة الموز الاستوائي الخضراء المفرودة في فراغ الغرفة أمامه وبين سريره والكرسي الفاخر المجاور للنافذة المزخرفة قال له صاحب الصوت:
- هدئ من روعك يا صديقي.. أنت في أمان تام هنا، ولا تدع الخوف يتملكك كالسذج إلي هذه الدرجة يا عزيزي.. المفروض أنك قط ذكي لك رأي مستقل.. وما دمت جائعاً فلابد أن تأكل حتي يمكن أن نتفاهم.. كن عملياً.. أليس هذا هو طعامك المفضل؟!
سأل «مشكاح» في فزع:
- من أي لحم صنع هذا الطعام؟
ضحك الفأر صاحب الغليون وهو يزيح صفحات الجريدة عن وجهه وقال مداعباً:
- هل فقدت حاسة الشم يا صديقي.. إنه من الطعام الذي تفضله والذي يجعلك دون غيره قادراً علي التفكير السليم.. وقد ملأت معدتك منه بالأمس.. وكانت له أفضل النتائج!..
لم يعد القط قادراً علي الفهم.. فاستسلم لحالة الغباء المريحة التي يمارسها كلما اختلطت أمامه السبل وتعقدت الأمور.. بينما استمر الفأر الرسمي صاحب الغليون ضاحكاً:
- لقد مسحت الأطباق كلها لدرجة أنهم لم يحتاجوا لغسلها بعدك.
واستغرق في القهقهة معجباً بفكاهته مؤملاً أن يشاركه «مشكاح» الضحك.. لكن القط صرخ مرتعباً:
- ماذا تريد أن تفعل بي؟.. أنا لم آكل منه أمس ولن آكل منه أبداً.. لست جائعاً.. ولن أرتكب تلك الحماقة مرة أخري.. إنهم سيفحصون معدتي؟.. أليس كذلك؟.. هل ظهرت نتيجة التحاليل يا سيدي.. أرجوك ارحمني.. فأنا قط مسكين وقعت في قبضة من لا يرحم.
قهقه الفأر الرسمي مرة أخري قهقهة رسمية عريضة كأي ضبع صومالي مرح وقال:
- عظيم.. هذا تحول رائع.. من المطلوب أن تبدو حريصاً.. لقد بدأت في التفكير لمواجهة الموقف.. وهذا تقدم كبير.. كالعادة حاول «مشكاح» أن يفهم دون جدوي، وجلس يائساً فعاجله الفأر قائلاً:
- اطمئن!.. إن من واجبي أن اطمئنك.. ثم أبعد الصحيفة نهائياً واقترب منه هامساً:
- إن تقارير المعمل عنك كانت كلها سلبية لقد أثبتت الباحثة العبقرية بالدليل العلمي القاطع.. أنك لم تتناول لحم فئران منذ صدور قانون تحريم صيد الفئران.. فماذا تريد أعظم من هذا؟!
حاول «مشكاح» أن ينطق مظهراً دهشته أو فرحه فلم يستطع سوي أن يقول بصوت مبحوح:
- ولكني أكلت منه بالأمس.. كيف إذن جاءت التحاليل سلبية؟!..
قطع الفأر صاحب الغليون ضحكته.. أعني أنه ضحك ثم قطع ضحكته وقال:
- أيها الساذج المسكين، إنه مجرد تقرير مكتوب ومعتمد.. مجرد ورق.. يصبح رسمياً عندما نريد نحن ذلك.. إفهم.. أنت الآن بريء تماماً.. كقط لم يتناول أبداً إلا لبن أمه القطة.. أم أنك كنت تفضل لبن الفئران..
وانفجر ضاحكاً..
والحقيقة أنه كان في حالة معنوية عالية لا تناسب «مشكاح» الذي قال في صوت واهن:
- أيعني ذلك إنني لن أعدم؟!
صمت الفأر الرسمي صاحب الغليون.. ونظر في عينيه مباشرة نظرة صامتة.. ثم أدار رأسه عنه ومضي ناحية النافذة.. يتأمل المنظر الخارجي.. مما كاد يذهب بعقل «مشكاح».. لولا أن الفأر استدار في الوقت المناسب وقال:
- إن هذا يتوقف عليك وحدك.. ألم يكن هذا جزء من اتفاقنا.. هل نسيت؟!
لم يكن «مشكاح» قادراً علي تذكر أي شيء. ولكن الحديث بهذا الود عن اتفاق ما تم بينهما كان شيئاً كحبل النجاة لغريق لا يعرف السباحة.. المهم أن هناك اتفاقاً ما يجعلهما صديقين وهذا يكفيه الآن فهز رأسه موافقاً بينما استمر الفأر في الحديث قائلاً:
- قلت لك إن صداقتي ستكون باب السعادة الذي سيفتح أمام آفاق حياة جديدة أتذكر؟!
أم أنك مازلت تعاني آثار العلاقة الأزلية بين القط والفأر؟!
لا يا صديقي لنبدأ صفحة جديدة وأثبت لصديقك الجديد أنه جدير بثقتك.. كما وثق هو بك.. هيا.. تقدم وكل.. طعامك المفضل.. ولكن لا تأكلني أنا.. فلست مجهزاً بعد لهذه اللحظة.. هيا:
واستغرق في الضحك مرة أخري.. وكان «مشكاح» معجباً بروحه المرحة يحاول أن يجاريه في الابتسام والمرح فقال بصوت أقل ضعفاً:
- لا أريد أن أخالف القانون!..
اقترب منه الفأر صاحب الغليون وهمس بنفس طبقة صوته في ود:
- يا صديقي «مشكاح».. اسمع كلام صديقك «رمّاح».. نعم هذا هو اسمي يا صديقي.. وافهم لقد حرّمت القوانين صيد الفئران.. وألغتها كمهنة محترمة، كوسيلة للكسب والقسوة، ولكنها لم تمنع أكل الفئران.. أليس كذلك.. هل لاحظت في القانون أي بند أو فقرة تحرم أكل الفئران في قانون حماية الفئران من الصيد.
اتسعت عينا «مشكاح» دهشة وواصل «رمّاح» حديثه بصوت عميق حزين:
- ولو فهمت ذلك.. لعرفت أن هذا القانون اللعين كارثة..
فازدادت دهشة «مشكاح» وسأله:
- هل أنت وأنت فأر ضد قانون حماية الفئران.. إنك فأر ويجب أن تقف مع قانون يحمي بني جنسك.. إن ما يدهشني هو أنك تلعن هذاالقانون وتحرضني علي أكل لحم عشيرتك..
هز «رمّاح» الحزين رأسه المملوءة بالحزن وقال نافذ الصبر:
- ستظل غبياً يا صديقي حتي لو أكلت أطناناً من لحم الفئران..
رد «مشكاح» بسرعة
- لم أفهم..
فصاح به «رمّاح»:
- ولن تفهم علي الإطلاق..
سقط رأس «مشكاح» علي صدره يأساً وقال:
- ساعدني علي الفهم.. أرجوك وإلا طار عقلي..
اعتدل «رمّاح» في كرسيه وكان قد جلس عليه منذ برهة، وجره نحو السرير وأخذ في هدوء يشرح للقط أضرار قانون حماية الفئران من الصيد علي الفئران.. وأخذ ينشط ذاكرته مستعيداً تلك الأيام الخوالي عندما كانت القطط لا هم لها سوي البحث عن الفئران، وكانت الفئران تعيش علي حافة الخطر كأي مخلوقات برية رومانسية وكان إحساسها الدائم بالخطر يجعلها تتدرب باستمرار، وتكتسب مهارات فنون الحرب من كر وفر وهرب ومراوغة وقفز ونط واختفاء واحتماء وتسلق وتزحلق.
كانت الفئران تري في الظلام، وتعبر الأنهار سباحة وتتحمل الجوع والعطش ولم يفقدوا أبداً ميزة البديهة الحاضرة، وكانوا يثيرون الهلع والقشعريرة، ولا يظهرون خوفهم أبداً وكانوا يسكتون ويتجمدون لساعات إذا ما حوصروا.. كانوا يعرفون مقدار الخطر المتربص بهم عند كل ركن وفي كل زاوية، ولذا اكتسبوا حصانة طبيعية وقدرة علي تجنب الخطر واحتمال المكاره.. بل وكانت عندهم مناعة خاصة علي مقاومة الأمراض.. وقدرة خاصة علي صفاء التفكير.. ولم يعرفوا الكسل والترهل والبطنة فاكتسبوا رجاحة العقل والفطنة.. أما الآن وبعد أن حل بهم الأمان صاروا يتسكعون هنا وهناك بلا عمل، يأكلون في شراهة ففقدوا القدرة علي الفهم بل والقدرة علي الحلم والأمل.
وعندما وصل الفأر «رمّاح» إلي هذه النقطة كان الانفعال قد بلغ به مبلغاً شديداً جعل صوته يتهدج حزناً وعيناه تمتلآن بالدموع فاختنق صوته مما جعل قلب «مشكاح» يذوب عطفاً عليه وعلي بني جنسه من الفئران!
ونكمل باقي الحكاية في المره الجاية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.