في أول يوم دراسي بكلية الحقوق, طالعت في الصفحة الأولي من كتاب الاقتصاد للدكتور زكريا نصر عبارة غريبة أوردها المؤلف بدلا من الإهداء: والقط يأكل ويستمع. تجاسرت فسألت الأستاذ فحكي لي قصة قط مدلل في بيت رجل حكيم.. لكن القط سطا ذات يوم علي طعام الرجل الذي اشتكي للقط أن هذا الطعام هو طعام الأسرة, وأنه يقدم للقط ما يكفي من طعام ويزيد, وظل الرجل يقول ويقول ويقول, والقط يأكل ويستمع, ولم يجد الرجل مفرا من استخدام العصا, ساعتها, وساعتها فقط توقف القط عن سرقة الطعام. وهكذا, وفي كل مرة تثار فيها مسألة الفتنة الطائفية أتذكر والقط يأكل ويستمع, وألاحظ أن الجميع يتباكون علي وحدتنا الوطنية الغالية والتاريخية, وعلي النسيج الواحد, وعن الأخوة الدائمة, وألف علي أخري, بينما هم ينتهكون أبسط مقومات هذه الوحدة, ويشحنون في كل يوم بطاريات الحقد الطائفي, يشحنونه بحماس وكأن رفض الآخر هو جزء من الإيمان, أو لعله الإيمان نفسه, وتتوالي أحداث الفتنة واحدة تلو الأخري, وكل منها تأتي أشد تشددا من سابقتها, ويتوالي صراخنا واستصراخنا للضمير الوطني إن كان موجودا, نصرخ ونقول.. ونقول والقط يأكل ويستمع. وإذ نعاني الجراح التي تدمر جسد الوطن في هذا الموضوع نجدها كثيرة, ونعرف جيدا, كلنا نعرف جيدا, أنها معلومة من الجميع. معلومة من الظالم والمظلوم, لكن الكثيرين يذكروننا بقولة الزعيم سعد زغلول: من الناس من إذا رأي ظالما يظلم مظلوما قال للمظلوم( لا تصرخ) قبل أن يقول للظالم( لا تظلم). وكأمثلة, مجرد أمثلة من جراح عديدة, مسألة بناء وإصلاح دور العبادة, وهي مسألة شائكة بقدر ما هي شديدة السهولة, فدور العبادة هي أولا وأخيرا دور يؤمها البشر لعبادة الله وفق عقيدتهم الدينية, وليس لأي شيء آخر, وحتي إن تصور البعض أنها قد يساء استخدامها لأغراض أخري, فإنها تظل دوما دور عبادة, ألم تستخدم المساجد هنا أو هناك استخداما خاطئا؟ فهل صب أحد منا نقمته علي هذا المسجد أو ذاك؟ كلا فلبيت الله حرمته, وإن خالف فرد أو أفراد قواعد وآليات هذه الحرمة المفترضة في دار العبادة يضرب علي يدي هذا العابث أو هؤلاء العابثين, وتبقي دار العبادة مستمتعة بمكانتها ومهابتها, نظيفة من العبث والعابثين. وثمة مشكلة مزمنة هي الأخري, وهي مسألة الاختيارات لوظائف محددة, تتوالي السنوات, ويبقي الحال علي ما هو عليه, فيزيد الاحتقان احتقانا, ويضاعف من الآثار السلبية المترتبة عليه, وينسي البعض أو يتناسون أن مصر بلد كبير جدا, وأن مجالات العمل القيادي في مناحيه المختلفة عديدة وكثيرة ويمكنها أن تستوعب كل الأطراف دون أي مساس بمصالح أحد, أو حتي بمشاعر خاطئة عن أي أحد, بل علي العكس, فهي ستوحد الوطن وتحميه من شبهة التحيز. وهناك كذلك قضايا التعليم حيث تشحن بعض الكتب بهمسات أو إيحاءات تسيء للبعض منا, بل وتنكر عليه حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقانون, وهناك الإعلام, وهناك الكثير والكثير من المشكلات التي أكاد أجزم أنها سهلة الحل فوق أنها واجبة الحل, وأكاد أجزم بأن استمرارها يؤدي إلي خطأ مزدوج, الأول هو شحن طرف بأحاسيس تتراوح بين الإحساس بالظلم أو المهانة, بينما هي ثانيا تعبئ الطرف الآخر باليقين بأن هذا الذي يجري هو الطبيعي والحتمي, بل والالتزام الديني, وما هو كذلك, وهكذا تتواصل عملية شحن الطرفين بمخزون من المتفجرات تنفجر عندما يحين الحين. ولا يدرك البعض الذي يواصل نظرية القط يأكل ويستمع أنه مع استمراره في انتهاج هذه الممارسات يسهم في شحن الطرف الأقوي, وفي تعبئته بمشاعر ومواقف وحالة نفسية تتصاعد نحو المزيد من التطرف أو حتي مجرد الاستعلاء إزاء الآخر, بما يجعل من عملية الإصلاح أمرا صعبا, وتتلقف القوي المتطرفة والمتربصة والمنظمة هذا المناخ لتستفيد منه وترتع وتقوي في رحابه, وتستقوي به حتي ضد من يغرسون هذا الشوك بأيديهم. كذلك فإن انعكاسات هذه السياسات المستمرة, واستمرار القط في الأكل والاكتفاء بالاستماع, وتضاؤل دور القوي المستنيرة الداعية لحل مصري وطني لهذه المشكلات يدفع البعض من الطرف المستشعر ظلما وضعفا إلي اليقين بألا أمل يرتجي من أي صراخ داخلي, فلا المخطئ يتزحزح عما يفعل, ولا هو يستجيب, ولا القوي المستنيرة تتحرك بما يكفي, وبما يؤثر, وبما يحدث تغييرا ولو طفيفا في الأوضاع الخاطئة, وإذ يتراكم هذا اليقين فإنه يولد في أصحابه الإحساس بضرورة الاسقواء بالخارج, وبالخارج الأمريكي تحديدا, وتزداد الرغبة في الاستقواء بأمريكا لدي طائفة من أقباط المهجر. لكن هؤلاء في الداخل وفي الخارج يلعبون لعبة خطيرة, فقد يشكلون ضغطا أو بعض ضغط علي وضع لا يستجيب, ولكن الأخطر هو أن مثل هذا الاستقواء بأمريكا يضع القضية كلها في قبضة مكروهة لا تمتلك أي مصداقية, واللجوء إليها يزيد من امتعاض الطرف الآخر. فما الحل إذن؟ نعود إلي قصة القط, والاستماع دون إصغاء ودون اكتراث, ونعود إلي ضرورة تحقيق ضغط فاعل وجاد يجبر القط أيا كان علي التوقف عن الفعل الخاطئ, والاستماع إلي صوت العقل. هذا الضغط يحتاج إلي تحرك عديد من المثقفين والليبراليين ورجال الدين المعتدلين والكتاب والصحفيين يتحركون في إطار جماعي مستنير, مصري المذاق, ومصري الهوي, ومصري الهدف, ليمارسوا ضغوطا متواصلة, وفي كل مكان, سعيا وراء تصويب جدي للأخطاء.