قضيت الليلة الماضية فى الدعاء للمحروسة وأنا أراها مرتبكة متوترة كلما طرق الباب طارق انسحبت إلى غرفتها وتركت لأهلها القرار ثقة فى حكمتهم وإيمانا بحسن تبصرهم.. فى الليلة الموعودة سألت الله أن تكون سلاما هى حتى مطلع الفجر.. وصلت مجلس الحكواتى فى تلك الليلة مبكرا عن موعدى فلم أطق عن المريدين فى تلك الليلة الحاسمة صبرا.. وصلت فوجدت الجمع مشغولاً بين التوكيلات والصيحات والهتافات ووجدت اللافتات تملأ المجلس بين يمين ويسار وقد تحزب كل فريق فى ركن من أركان المجلس وقد وقف على كل فريق رجل يحثهم ويعدهم ويأمرهم وينههم ويعظهم ويلاطفهم، ففريق يهتف وآخر يغنى وثالث يصلى ولم أكن أعلم أن مجلس الحكواتى قد أصبح ساحة للوغى فنظرت إلى كاتبى فوجدته مشغولا بتعبئة الأوراق للمريدين والحرس يدافعون بين الناس ومهردارى يحاول الوصول إلى فيحبسه الزحام عنى فعلمت أن عيار المجلس قد فلت وأنه لم ينتبه أحد لوصول مولانا وأن القوم فى خطب جلل وكان مما حيرنى أن فئة كبيرة من القوم لم يبدأوا المذاكرة كعادتهم إلا صباح الامتحان فتراهم حائرين تعرف فى وجوههم أنه لا إجابة للسؤال الإجبارى عندهم وفئة قد حسمت أمرها واختارت رجلها شخصا أو فكرا أو برنامجا وأسواهم من حسم أمره لمشاكسة فريق آخر ولسان حاله يقول سأختار حتى الأسوأ أما أنت فلن يكون.. فأدركت أن على مولانا أن يتدخل فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة من عمر المحروسة فأجمت أمرى ولملمت عباءتى وسويت عمامتى وصرخت فى القوم صوتا واحدا قائلا : يا أهل مصر.. فصمت الجميع فجأة كان على رؤوسهم الطير ونظروا جميعا فى اتجاه الصوت فلم أتكلم وأشرت لهم بالجلوس نظرة حاسمة حازمة أتقنها إذا جد الجد وكثر الجذب بين الناس والشد.. جلس القوم صامتين فقلت : يا أهل مصر انصتوا.. فليهتف من يشاء وليغنى من يشاء وليصلى من يشاء.. ولينحاز إلى يمينه أو يساره من يشاء.. فهذه حريتكم قد نلتموها على أسنة أرواح شهدائكم.. وهذه شمسكم قد أشرقت بعد ظلام وهذه مصر بين أيديكم كقطعة العجين المباركة.. وهذا نيلكم قد عاد إليكم صافيا كافيا وافيا.. وهذا كتاب تاريخ المحروسة قد طويت صفحة من صفحاته إلى غير رجعة.. فهل من بينكم من يود أن يستقبل من أمره ما استدبر ؟ اعلموا أنه كما لكل مقام مقال فإن لكل دولة رجال ولا يظنن أحدكم- عن طيب نية وحسن طوية - إن الطغاة يقبلون فى ملكهم من يعارضهم.. فلا يرتفع عندهم من ارتفع إلا بالموافقة وإجماع أكيد وحسن الطاعة.. وإما من اختلف معهم فمكانه وراء الأسوار أو فى صحن بيته مضيقا عليه.. هذا ما كان وهذا ما سيكون إلى قيام الساعة.. إلا من أحسن النفاق فأظهر غير ما أبطن فخدع القوم وخادعهم.. فنال ما طمحت إليه نفسه من شهوة السلطة والجاه وتنعم فى ظل الطغاة بأسباب الحياة.. فإذا جاء الزلزال سارع فاصطف إلى جوار الصارخين فيكون قد كسب الحسنيين.. وأقسم وحلف وأرغى وأزبد.. فيا أهل مصر هيهات هيهات لما توعدون.. اتجهوا يمينا أو يسارا وانحازوا طولا أو عرضا ولكن الحذر كل الحذر من العودة إلى الخلف.. كونوا سلفيين أو ناصريين أو علمانيين أو اشتراكيين، كونوا ما تشاءوا إلا أن تكونوا كما كنتم.. فالخفيون يحملون ختم أكاديميتهم وبصمة معلمهم وقد علمتم أن الذئب يبتسم لفريسته قبل الانقضاض وأن الثعلب يلاطف ضحيته قبل أن يدعو باقى القطيع لينهالوا عليه تفريقا وتمزيقا.. أسأل الله لكم السداد وعودوا إلى ما كنتم فيه وخلونى لخلوتى رحمكم الله.