اعتقدت فى تلك الليلة أن صراخ وضجيج سكان الفسطاط وأهل الرباط ومن حول المعسكر قد وصل بلاشك إلى القطائع وجبل يشكر، حتى ظننت أن ابن طولون سيقوم من رقدته.. فيعيد إلى ديار المحروسة حفيدته.. قطر الندى بنت خمارويه الشريفة.. والتى حملها الخليفة... فى ظلام الليل إلى خيمته.. وأن بيبرس قد ندم على فعلته وأن صلاح الدين قد أعد لأورشليم عدته.. وأن المقوقس قد أفاق من غفلته وأن الباشا محمد على سيصرخ فى القوم كعادته فيسكت من اعترض على جنسيته.. فما إن وصلت إلى مجلسى حتى حمدت الله والتقطت أنفاسى من ذلك الزحام وجلست إلى متكئى فنثرت أوراقى وفتحت دفتر تاريخ المحروسة - المختصر - لأقرأ منه ما قد حضر.. وما إن فعلت حتى سادت همهمة وغمغمة بين الحضور.. وعلا وجوه المريدين جميعهم الفتور.. كأن على أطراف ألسنتهم ستور.. فملت إلى كاتبى - كعادتى - مستفهما.. فوجدته كالحضور واجما... فوجهت كلامى إلى المريدين قائلا: أراكم وقد اجتمعتم على أمر قد أهمكم وطارئ قد اشغلكم فانتخبوا منكم رجلا قد فصح لسانه ينبى لنا عن صمتكم ببيانه.. فوقف منهم رجل تعلق بصره بينى وبين المريدين جيئة وذهابا قال: لم نعهد منك يامولانا عن كبريات الحوادث فى المحروسة غيابا وهذا أمر مما تعمل له العامة حسابا.. ومن أعجبها ألا نراك فى عزاء البابا؟ وقد علمت أن مريديك هم أغلب الناس وأنهم يحسبون عليك الأنفاس.. فإن كان الذى منعك طارق من طوارق الدهر قد طرقك أو أمر قد اشغلك.. فهلا أرحت به القوم فإنهم ظنوا أن للمسألة وجها آخر قد علمته وجهلوه فتهيبوا أن يسألوك عنه.. أشرت للرجل بالجلوس ووجهت كلامى إلى الحضور قائلا: نعم وعن الفتى تسألون ومن صمتى تعجبون.. وهو القائل إذا سئل عن صمته.. نصمت ليتكلم الله تسألون عن الميزان إذا رحلت رمانته والنهر إذا سكنت ضفته ومركبكم إذا مالت دفته نعم وعن الفتى تسألون.. من إذا اختلفت معه فى العقيدة يقبلك وإذا تحدث عن أئمتك أذهلك وإذا أراد به حاكما شراً هلك نعم وعن الفتى تسألون عصفور الخير.. ساكن الدير.. ثقيل آلهم.. خفيف الظل.. أبانا الذى فى الأرض... قمح المحروسة وملحها.. انتقل فلم أحضر عزاؤه.. أما علمتم يا فاعلى الإثم أن مولانا عابر إليكم عبر الزمان.. فلا أرض له ولا سماء ولا مكان أبعدتنى عنه بحور ربى.. فأقمت عزاؤه بقلبى.. شغلنى نظير جيد أصيل.. لنظير جيد روفائيل من لا يبيع حجارة كنيسته المصرية بذهب أصحاب المحجر.. من ينهى أولاده أن يلعبوا عند بيت الجارة الشريرة.. فإن خالفوا وقالوا بالتواصل.. حرمهم من التناول.. سألت عن البابا شنودة فقيل لى إنه ذهب للقاء الاب بنيامين وأغلب الظن أنه لن يعود.. سمعت دبيب الروم على الأبواب.. فحاولت الاتصال بابن العاص فقيل لى لقد تأخرت ألف عام أو يزيد نعم.. فى غير وقتهم رحل الأحباء.. فيا أيتها القرعة الهيكيلة يا عطر الأحبة الراحلين.. حنانيك بمصر ويا أبانا الذى كان على الأرض وداعا.. رحل أغلب الليل وهذه نسائم الفجر قد أقبلت فقوموا عنى وخلونى لخلوتى رحمكم الله.