كنت فى تلك الليلة فى ديوانى الصغير الملحق بالمجلس أقرأ ما تيسر من كتاب الله حتى دخل على كاتبى ليعلمنى أن المجلس قد تجهز وأنه قد امتلأ على ضيقه بالمريدين وكنت قد اعتدت أن أضع علامة عند الآية التى أتوقف عندها لأبدا منها إذا عاودت القراءة فوقف أمامى الكاتب منتظرا وأنا اختم «تبت يدا أبى لهب وتب.. ما أغنى عنه ماله وما كسب» وضعت العلامة وجعلت أردد تلك الآية وأنا متجه إلى المجلس بصحبة كاتبى ومهردارى ودوايدارى والحرس لأجد زحاما لم أعتد مثله من المريدين الذين هالهم الأمر وأخذ منهم العجب كل مأخذ فراحوا يتساءلون كم بقى على يوم القيامة؟ راغبين فى التأكد من أن الشمس فى مكانها وأن الأرض مازالت تدور فى مدارها جلست إلى متكئى وبادرت الجمع بقولى - وأنا أقدر اضطرابهم: أبدأ هذه الليلة وأكتفى بنقل حديث دار بين فارسى من متعصبى الفرس وعاقل من عقلاء العرب وعلمائهم زمان كان الفرس فى رخاء من العيش ويسره والعرب فى شدته وعسره وذلك مما نقله لنا أبوحيان التوحيدى فى الإمتاع والمؤانسة - لمن شاء أن يرجع إليه - أنقله كما ورد بنصه بتصرف وأضعه بين قوسين للتمييز ثم أعلق مختصرا.. «وقال الجيهانى الفارسى: مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا، أن الله فاض علينا النعم، ووسع لدينا القسم، وبوأنا الجنان والأرياف، ونعمنا وأترفنا، ولم يفعل هذا بالعرب بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم وحرمهم، وجمعهم فى جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاح، وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة.. والمقصود بالكرامة.. فوق المقصود بالإهانة.. فدل بكلامه على أنه جاهل بالنعمة غافل عما هو سر الحكمة وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحوارى، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسد الأرض وقنع باليسير، هذا خطأ من الرأى مردود عند الله تعالى ثم عند جميع أهل الفضل فإن نعم الله على ضربين أولهما قد عم به عباده فقد خلق ورزق وكفل بدءا بلا استحقاق ثم نعمة لاتستحق إلا بالعمل والاجتهاد ومن حرم النعمة الثانية فهو أنقص من كل فقير.. وقد بان لك أن المدار ليس بالجنان والترفه ولا بالذهب والفضة فالفضل الممزوج بالنقيصة ليس فضلا.. وفى الجملة فإن الذين وطاؤهم الأرض وغطاؤهم السماء هم إلى الحول والقوة أعلق وإلى الحكمة أفزع.. أورثهم بعدهم عن الترف فطنة كما أورث المترفين بلادة وهذا معنى كريم لا يقر به إلا كل نقاب عليم» انتهى كلام أبوحيان وكان المريدون جميعا فى صمت وذهول كأنهم متشككون فى أن هذا الحديث قد دار بين عربى وفارسى منذ قرابة ألف عام أو يزيد وأنه أقرب إلى أن يكون قد دار بين عربى وعربى بالأمس القريب.. قلت: كما علمتم أن الأمور بخواتيمها فاعلموا أن الأشجار بثمارها.. وأن الله إذا أراد نبتا غرس له غرسا.. فهذا غرس الله فى أرض الكنانة.. أعجبنى أحد المرشحين الوسطيين عندما سئل عن كرامة المصريين بالخارج فقال: ألا سألتم ولماذا هم أصلا بالخارج؟ أعيدوا غرسكم إلى أرضكم ففيه كرامتكم وحسبكم ودعوا عنكم الصراخ والهرج.. هذه نسائم الفجر أقبلت والليل قد أدبر فقوموا عنى وخلونى لخلوتى رحمكم الله.