في الحلقة السابقة حدثنا السفير الأمريكي باتل عن مقابلته الأخيرة للرئيس عبد الناصر في 4 مارس 1967 يتذكر السفير أنه في الليلة الأخيرة له في القاهرة، أقام الصحفي حسنين هيكل حفل عشاء علي شرفه، كانت هناك حفلات توديع عديدة له، ولكن دعوة هيكل كانت الأخيرة وتمت في مسكن هيكل علي النيل دعا إليها السادات وحرمه ومحمود رياض وزير الخارجية والمشير عامر الذي يقول السفير إنه كانت المرة الوحيدة التي تحدث فيها معه. بدأ العشاء متأخراً كما يحدث دائماً في مصر واستمر حتي الثانية صباحاً من اليوم التالي. وكما هي العادة فإن الرجال كانوا يتجمعون معاً بعد العشاء وكان الجو محبطاً لأن جميع الضيوف أظهروا شعوراً كثيراً بالقلق علي مستقبل علاقات مصر مع الولاياتالمتحدة. وفي اليوم التالي عندما ذهب السفير إلي سفارته حيث كان سيغادر القاهرة بعد ساعات فإنه أرسل برقيته الأخيرة إلي الخارجية الأمريكية وهي البرقية التي لم تفرج الخارجية عن سريتها بعد لأسباب لا يعلمها حتي الآن. قالت : البرقية - طبقاً لرواية السفير إن عبد الناصر في أزمة حقيقية اقتصادياً وسياسياً وهو أمر كان هو متأكداً منه تماماً خاصة بعد حديثه الأخير معه، وكان هناك شعور ب «الانهزامية» (وهذا تعبير باتل) حول الموقف، غير مرئي ولكنه حاضر. وبسبب هذه الصعوبات تنبأ السفير أن عبدالناصر علي وشك أن يقوم بإجراءات قوية وأن أمامه ثلاث خيارات الأول أن يسخن الوضع في اليمن الذي كان يوجد به في ذلك الوقت 65 ألف جندي مصري مما يزيد الضغط علي السعوديين لزيادة مساهمتهم لمصر زيادة ضخمة. والثاني هو أن يقوم بتسخين الموقف في ليبيا (لم يكن انقلاب القذافي قد حدث بعد وكانت تحكم بالملك إدريس السنوسي) حيث لمصر 18 ألف مدرس هناك وهو ما قد يؤدي إلي زيادة مساهمات ليبيا إلي مصر، والثالث وهو الأقل احتمالاً في تقدير السفير ومع ذلك يتبقي أحد الخيارات هو تسخين الموقف علي الجبهة الإسرائيلية ليس لأنه يسعي إلي الحرب وهو أمر كان السفير يعتقد أن عبدالناصر لا يرغبه ولكن لكي يثبت أنه لا يزال المارد السياسي ويحصل علي الاحترام والنفوذ الذي يكنه له الكثير من دول العالم الثالث، والذي كان في هبوط خلال الشهور الأخيرة. عندما عاد باتل إلي واشنطن من القاهرة قبل حرب 1967 عين مساعداً لوزير الخارجية الأمريكية وأعتقد أن عبد الناصر قد أتبع ما جاء في برقيته الأخيرة له من القاهرة حول الخيار الأول أمامه. فقد أعلن اليمن اتهام الولاياتالمتحدة بتدبير نسف مستودع للذخيرة، وهو أمر في الحقيقة كان من عمل البريطانيين، ولكن تم اعتقال ثلاثة أمريكيين أفرج عنهم بعد ذلك. وظن باتل أن ذلك جزء من استراتيجية عبد الناصر لتسخين الموقف في اليمن غير أنه يقول إن الموضوع لم يطل كثيراً فقد بدأ المصريون يدلون بتصريحات غير مناسبة عن إسرائيل. والباقي تاريخه معروف حيث نشبت الحرب ولم يتعاف عبد الناصر من اثارها خاصة وضعه الإقليمي. يقول باتل إن مدة خدمته في مصر كانت مثيرة له وهو استمتع بها جداً فقد أحب المصريين وكانت حياته في القاهرةسعيدة بالرغم من كل الصعوبات، لم يكن يعتقد أن هذه الصعوبات من الضخامة بحيث لا يمكن التغلب عليها وحاول من جانبه الاستمرار بالرغم من ذلك. فلم يحاول أن يعمل كما لو أن الولاياتالمتحدة قوة ليس لها نفوذ في مصر، كان عبد الناصر يشعر كما يقول السفير بالرهبة من الولاياتالمتحدة، ولكنه «لم يفهمها» أعتاد السفير أن يأخذ معه في مقابلاته مع عبد الناصر كتباً عن الولاياتالمتحدة وهي الكتب التي قرأها الرئيس بالفعل، وكان مهتماً جداً بتاريخ عائلة كينيدي. كانت جاكلين كنيدي (زوجة الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي الذي اغتيل) قد توفيت عندما بدأ عمله في مصر. وفي فترة ما حضر إلي مصر تيد كينيدي (شقيق جون كينيدي الذي توفي عام 2010) ومعه جون تومي وزوجتاهما حيث قضي السفير معهما في مصر عدة أيام، وخاصة خلال إجازة عيد الشكر الأمريكية عام 1966 واصطحبهما في مقابلة مع عبد الناصر الذي كان مهتماً بصفة خاصة برؤية تيد كنيدي. وفي الواقع كما يذكر السفير فإن كل المصريين سواء من علية القوم أو أقلهم شعروا بارتباط ما مع عائلة كينيدي تماماً مثل أناس عديدون حول العالم. يقول باتل إنه كان علي علاقة طيبة مع الحكومة المصرية وكان يقابل باستمرار وزير الخارجية ونائبه إلي جانب عدد من الوزراء، وعندما وصل إلي القاهرة كان عدد العاملين في المكتب العسكري بالسفارة وحده يصل إلي 58 شخصاً. وفي الواقع فإن المكتب كان في حاجة إلي ثلاثة أشخاص فقط. وكانت له طائرتان عرض السفير أن يتنازل عن إحداهما، ولكن العسكريين في السفارة اعترضوا علي ذلك. كانت أمامه مشكلة أخري. فأثناء وجوده بالقاهرة حصل علي تصريح خاص من الحكومة الأمريكية بالاطلاع علي ما يبعثه قمر تجسس عسكري أمريكي عن المعلومات المتحصلة منه عن مصر، ولكن أياً من الملاحق العسكريين الأمريكيين بالسفارة لم يكن لديه مثل هذا التصريح، ولكن - كما يقول السفير متهكماً - لو كانوا يقرأون صحيفة النيويورك تايمز فغالباً كانت ستكون لديهم نفس المعلومات. أصر السفير في تعاملاته معهم علي أن يأخذوا موافقته أولاً علي العمليات التي يقومون بها في مصر قبل القيام بها. كان يبحث مدي جدوي تلك العمليات حيث كان يملك من المعلومات أكثر من تلك التي لديهم بسبب ما تبعث به إليه الإدارة الأمريكية من معلومات خاصة به وحده. في الحلقة القادمة يحدثنا السفير عن بعض المعلومات المضحكة أحياناً حول عمليات التجسس الأمريكي في مصر خلال هذه الفترة.