في حلقات سابقة روي لنا لوسيوس باتل، الذي عين سفيرًا للولايات المتحدةبالقاهرة، في خلال عهد الرئيس عبدالناصر تدهور وصعود وتذبذب علاقات مصر مع واشنطن. وهنا يروي لنا قصة قبض السلطات المصرية علي مصطفي أمين الصحفي المشهور ورئيس تحرير جريدة «الأخبار» المصرية. يقول باتل إن قصة مصطفي أمين كانت مشابهة لقصة رجل الأعمال الأمريكي الذي قابل عبدالناصر من وراء ظهر الإدارة الأمريكية ومحرجة جدًا في نواحٍ عديدة. أمين كان التوءم لعلي أمين، وكلاهما كان من محرري الصحف. وفي الأيام الأولي من الثورة كانا قريبين من عبدالناصر وخصوصًا مصطفي أمين الذي كان - طبقا لما يذكره باتل - يتلقي راتبًا من الولاياتالمتحدة. وعندما ذهب السفير إلي القاهرة قيل له (من جانب المسئولين الأمريكيين) إنه لا توجد حاليًا في مصر أي حالات Cases (والمقصود بها عمليات مخابراتية أمريكية في مصر في العرف الأمريكي) ولكن في الحقيقة استمرت بعض مثل هذه الحالات. كانت قضية أمين خطيرة جدًا، إذ كان السفير يعرف أن بروس أوديل ممثل المخابرات الأمريكية في مصر الذي قام بالإدلاء بأحاديث صحفية فيما بعد لوسائل الإعلام الأمريكية مسببًا حرجًا كبيرًا لواشنطن، يتقابل بانتظام مع مصطفي أمين. وقد تم التأكيد للسفير أنه لا توجد أموال أمريكية تدفع في مصر، ولكنه ظهر في الصورة التي نشرت فيما بعد عند القبض علي مصطفي أمين أن ذلك لم يكن صحيحًا. كان السفير يحضر غداءً دبلوماسيًا ولم يكن لديه علم إطلاقا بذلك عندما تمت العملية. تم استدعاؤه إلي الخارجية المصرية لمقابلة القائم بأعمال وزير الخارجية حيث سلم صورًا تظهر تقديم أموال إلي أمين في إحدي حدائق الإسكندرية. أنكر بروس أوديل ارتكاب أي شيء خطأ، التعليمات الدائمة لدي السفير كما يذكر هو ألا يقر بمثل هذه الأحداث، وهو ما فعله وعاد إلي مبني السفارة، حيث استدعي المسئول عن المخابرات الأمريكية لحضور اجتماع لكي يبحثوا معا أسلوب التحرك تجاه هذا الموضوع، إذ أدرك أنه سيتحول إلي قصة كبيرة، وهو ما حدث بالفعل، فقد تناولته في اليوم التالي كل الصحف بعناوين بارزة. يقول السفير إنه بالرغم من صلته القريبة السابقة من عبدالناصر، فإن علاقة مصطفي أمين مع الرئيس كانت قد ضعفت كثيرًا في السنوات السابقة. لقد كان علي صلة قوية مع زعماء الثورة، ولكن ذلك لم يستمر. كان هناك أشخاص - كما يقول باتل - لهم علاقاتهم مع عبدالناصر تقوي ثم تضعف. أرسل مصطفي أمين إلي السجن حيث عذب بشدة - كما يدعي باتل طبقا للشائعات التي سمعها فيما بعد - ثم أفرج عنه بعد تولي السادات الحكم. كانت هناك جوانب مقلقة لهذه القضية، أولها، هل كانت الأنشطة الأمريكية لا تزال تعتمد علي صلاتها القديمة مع قادة الثورة التي أيدتها، غير أن هذه العلاقات لم يكن لها صفة الديمومة مع عبدالناصر وجماعته وهو أمر يحدث للأسف كثيرًا في مصر.. يقول السفير إن القاهرة مكان سيئ للقيام بعمليات مخابراتية حيث من الواضح أنه كانت هناك قيود كثيرة ضد مثل هذه العمليات، التي كانت خطرة وفي أحيان كثيرة لا تؤدي إلي تحقيق أي شيء. وطبقا للسفير فإنه قابل أناسًا عديدين كانوا يريدون تزويده بمعلومات وقد تعمد تجاهلهم جميعًا. يقول السفير باتل إن كل هذه الحوادث وقعت خلال السنة الأخيرة من تواجده في القاهرة، وكان الرئيس عبدالناصر يحجم بشدة أن تتضمن خطبه عبارات معادية للولايات المتحدة. في المرة الأخيرة التي قابل فيها الرئيس عبدالناصر يوم 4 مارس 1967، قضي السفير ساعتين معه، حيث أبلغه عبدالناصر بسحب طلبه للمساعدات الاقتصادية الأمريكية وهو الأمر الذي كان قد قدمه قبل أسبوعين من معاودته الهجوم علي الولاياتالمتحدة. هذا الأمر قضي علي أي إمكانية لاستئناف تقديم مساعدات أمريكية لمصر، وهو ما عده السفير هزيمة شخصية له، لأنه لم يستطع أن يفسر لعبدالناصر كيف وصل الأمر إلي هذا الحد، خصوصًا بعد أظهر هو والصحف المصرية درجة كبيرة من ضبط النفس لأكثر من سنة. كان الدكتور عبدالمنعم القيسوني وزير الشئون الاقتصادية علي اتصال مع السفير كل أسبوع ليستفسر عما إذا كان قد تلقي أي أخبار من الخارجية الأمريكية حول استمرار المساعدات. كان يشعر - أي القيسوني - باليأس لأن مصر كانت في حاجة إلي هذه المساعدات الغذائية، كما شكل الأمر عبئا كبيرًا علي أعضاء الحكومة من المتعاطفين مع الغرب، بل رهنوا مستقبلهم علي التوصل إلي تفاهم مع الولاياتالمتحدة. وفي يوم عيد الحب (يوم فالنتين عند الغربيين) عام 1967 قام عبدالناصر بأول هجوم له علي الولاياتالمتحدة بعد فترة طويلة من الهدوء. وللأسف جاء ذلك خلال فترة كانت تتم خلالها مشاورات في واشنطن مع السيناتور هيكنولوبر الذي كان أقدم أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، إذ كانت الإدارة تحاول الحصول علي تأييده لمد فترة المساعدات إلي مصر. تم إطلاع هذا السيناتور علي خطاب عبدالناصر وكان ذلك نهاية لموافقته علي المساعدات. ولذلك عندما قابل السفير باتل الرئيس عبدالناصر لآخر مرة للتوديع قبل مغادرته مصر فإن عبدالناصر أخبره بأن مصر تسحب طلبها بشأن المساعدات. طلب السفير من الرئيس عبدالناصر أن يسجل في محضر المقابلة أنه - أي الرئيس - هو الذي أنهي موضوع طلب المساعدة قبل أن يقوم السفير بذلك. ظل السفير باتل مع الرئيس عبدالناصر كما يقول في مقابلة طويلة تحدثا فيها حول موضوعات عديدة حيث سأله مثلا عن النزاع العربي الإسرائيلي وأي مستقبل في هذا الموضوع. أجاب عبدالناصر أنه لن تقوم حرب في المستقبل إلا إذا كانت في المكان والموعد الذي يختاره هو، وستكون عندما تكون مصر مستعدة. وأقر بأنها ليست مستعدة بعد لذلك. كان ذلك يوم 4 مارس 1967 وقامت الحرب يوم 5 يونيو. لا يري السفير أن عبدالناصر كان يعني أنه لن يقدم مطلقا علي محاولة تسخين الموقف ولكنه كان يعتقد كما يقول في هذا اليوم أن عبدالناصر لم يكن يتوقع نشوب الحرب وبالتأكيد لم يكن يسعي إليها، إذ كان يقر بعدم قدرته علي ذلك. يحدثنا السفير باتل عن الليلة الأخيرة له بالقاهرة قبل مغادرته إلي واشنطن.