في حلقة سابقة تعرضنا إلي السفير لوسيوس باتل الذي رشح سفيرا لبلاده بالقاهرة عام 1964، يتذكر باتل هنا أن أحد كبار المساعدين في البيت الأبيض حضر لمقابلته وسؤاله عما إذا كان مهتما بالذهاب إلي مصر، ولما سأله في أي مهمة أجابه كسفير هناك. رد باتل أنه سيفكر في الأمر حيث أن الفكرة تجذبه. كانت قد عرضت عليه عدة مناصب كسفير لبلاده في بلدان مختلفة ولكنه لم يكن متحمسا لسرعة مغادرة واشنطون في ذلك الوقت، ولكن بعد اغتيال كينيدي فان حماسه للعمل قل كثيرا إذ وجد صعوبة في التعامل مع مساعدي الرئيس جونسون الذي خلف كيندي في رئاسة الولاياتالمتحدة باعتباره كان نائبا له، والصعوبة في رأيه لم تكن في التعامل مع الرئيس جونسون نفسه بالرغم من أدبه كما يقول. ومع رفضه قبول ما عرض عليه من تولي السفارة في عدة بلدان، إلا أن القاهرة كانت جذابة له في ذلك الوقت، علي أن النظام الأمريكي في تعيين السفراء لم يكن يعمل بسرعة كما هو متوقع منه، إذ يتوجب علي الإدارة الأمريكية أن تخطر أولا رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي باقتراحها تعيين فلان في المنصب الفلاني، ومن حق رئيس اللجنة وكان السناتور فولبرايت صاحب فكرة منح فولبرايت الدراسية المعروفة حتي الآن أن يعرض الأمر علي الكونجرس لتثبيت موافقته علي هذا الترشيح وكان علي موعد معه في نفس اليوم المفترض أن يتلقي فيه اخطار الإدارة باقتراحه سفيرا لواشنطون في القاهرة. المقابلة تمت في الصباح وكانت في رأيه طيبة وأعتقد باتل أن الموافقة علي ذهابه إلي القاهرة مسألة روتينية، ولكن بعد عودته إلي مكتبه أخطرته إحدي المساعدات في مجلس الشيوخ أن واشنطون قد أرسلت في طلب موافقة الحكومة المصرية علي تعيينه سفيرا بالقاهرة، ولكن فولبرايت شعر بالغضب لأنهم لم يأخذوا موافقته مسبقا علي ذلك مما جعله يتصل بوكيل الخارجية الأمريكية جورج بول ويبدي استياءه. اتصل بول بالسفير جون بادو السفير الأمريكي في القاهرة تليفونيا، وكان ذلك في رأيه معجزة في ذلك الوقت لإمكان تحقيق الاتصال التليفوني مع القاهرة، والذي كان في طريقه إلي وزارة الخارجية المصرية لطلب موافقة الحكومة المصرية علي ترشيح واشنطون له كسفير جديد بالقاهرة، طلب من بادو أن يلغي موعده مع الخارجية المصرية وألا يقدم خطاب الترشيح. أصر فولبرايت علي عدم الموافقة علي ترشيحه للقاهرة، إلا إذا رشح له باتل باسم شخص آخر ليتولي منصبه الحالي كمساعد لوزير الخارجية، وعندما أخبره باتل أنه ليس من سلطته تعيين مساعدي وزير الخارجية لأن ذلك من اختصاص الرئيس نفسه، قال فولبرايت أن عليه إذن أن يرشح له شخصا آخر علي أية حال في مثل كفاءته، وإلا فإنه لن يوافق علي إرساله إلي القاهرة، رشح له عدة شخصيات رفضها جميعا حتي وافق علي ترشيح شخص من وزارة الدفاع وبذلك أمكنه في النهاية الذهاب إلي القاهرة. يقول باتل أنه في تلك الفترة كان هناك عدد آخر من كبار الدبلوماسيين الذين يريدون الذهاب إلي القاهرة أيضا خلفا للسفير جون بادو، أحدهم يدعي بيل بولك الذي عمل علي الاتصال بأصدقاء له في الكونجرس لإقناعهم بتأييد ترشيحه لمنصب القاهرة، ولكن هؤلاء أخبروه أنهم أصدقاء للسفير باتل ولا يستطيعون لذلك تأييد ترشيح آخر لمنصب القاهرة. يقول إنه شعر كما لو أن بولك هذا قد خانه وطعنه في ظهره، وعلي العموم فإنه لم ينجح في مسعاه. كانت القاهرة في تلك الفترة تتمتع بمركز دولي مرموق ولها سياسة خارجية نشطه مما جعل الكثيرين من الدبلوماسيين الأمريكيين يعتبرون الخدمة فيها تفيدهم شخصيا ووظيفيا، وهذا الأمر لا يزال ساريا بالنسبة لغالبية الدبلوماسيين سواء من أمريكا أو غيرهم ممن يحلمون بالخدمة بالقاهرة مهما كانت علاقات الأخيرة مع دولهم. قبل سفره إلي القاهرة ألقي باتل خطابا في اجتماع لنادي الدبلوماسيين الأمريكيين المتقاعدين وأخبرهم عن الموافقة علي ترشيحه للقاهرة، وأن هذا المنصب مهم يجب علي كل الدبلوماسيين الأمريكيين أن يسعوا من أجله، لم يكن قد خدم من قبل في الشرق الأوسط، ولكن كان في إمكان الرئيس جونسون إن يقول لأعضاء الكونجرس أنه سيرسل إلي القاهرة شخصية علي علاقة وثيقة معه تحمل أفكارا جديدة وليس من هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم «المستعربين» في الخارجية الأمريكية، وهو وصف لهؤلاء الدبلوماسيين الذين تخصصوا في الشرق الأوسط وتعلموا اللغة العربية.. يقول باتل أن الرئيس جونسون كان يرغب في الإبقاء علي برنامج المساعدات الاقتصادية لمصر قائما بالرغم من مظاهر الخلاف بين واشنطون والقاهرة ولذلك طلب منه أن يحصل علي تقييمه للموضوع. في الحلقة المقبلة سنري ماذا حدث للسفير بمجرد وصوله إلي القاهرة.