إذا كان جمال عبدالناصر رمزاً للستينات.. فالسد العالي رمز لطاقة هذه الأمة بهذه الكلمات بدأ الرئيس الراحل محمد أنور السادات خطابه الذي ألقاه في الاحتفال باكتمال بناء السد العالي عام 1971 وفي هذه الأيام تمر الذكري الخمسون علي بداية إنشاء السد في التاسع من يناير 1960 ولكثير ممن لا يعرفون فهو من أعظم الأعمال الهندسية التي تم بناؤها ولقب بمعجزة القرن العشرين.. سد من الأحجار والرمال والطمي طوله أكثر من ثلاثة كيلو مترات ونصف استغرق إنشاؤه عشر سنوات كاملة.. شارك في بنائه خمسة وعشرون ألفًا من المصريين.. سقط بعضهم شهداء تحت الصخور ويعيش بعضهم مصابًا حتي الآن فالسد العالي إنجاز مصري يتشابك وجوده مع معارك قومية واجهتها مصر الدولة ومصر الشعب.. قصص وحكايات منها الطريف والسعيد ومنها الحزين رواها مجموعة من العمال والمهندسين الذين عاصروا بداية بناء السد لروزاليوسف صبري يوسف 67 عامًا يقول: حضرت المرحلة الأولي لبناء السد العالي وتحويل مجري النيل وهي تمثل مرحلة من أهم مراحل نضال الشعب المصري والتي اختلط فيها العديد من المعارك سواء الاقتصادية أو العسكرية أو الاجتماعية. وبكل فخر قال صبري احنا اللي لوينا عنق النيل يوم حولنا مجراه كي نتمكن من حفر الأنفاق ولا أنسي هذا الموقف أبدًا. موقف آخر لا ينساه عم صبري حيث يروي أنهم بنوا سدا رمليا لحجز المياه خلفه وذات يوم ارتفع منسوب النيل وكاد السد أن ينهار وكان الوزير صدقي سليمان رئيس هيئة السد العالي موجودًا في الموقع وهربنا يومها إلا أن السد ظل علي حاله. أضاف: كنت أعشق النظر إلي لافتة كانت في مدخل المشروع وعلق عليها عداد للأيام بالفترة التي سيستغرقها إنشاء السد حيث كان تناقص الأيام علي العداد يعطيني حماسًا شديدًا للعمل والانتهاء من المشروع ويكشف أن زوجته وضعت مولودته الأولي يوم تحويل مجري النيل وسميتها انتصار حيث اعتبرت أننا انتصرنا علي النيل في هذا اليوم وأكد أنه لا يعتبر أن بناء السد كان بالأموال ولكن بالحماس والجد والتعب الذي بذله العمال والمهندسون والذين لم ينتظروا يومًا مقابلا لما يقومون به موضحًا أن الخبراء السوفييت ساعدوهم في إنجاز هذا العمل الهائل كما أن بناء السد غير من نظرة الناس لمدينة أسوان نفسها حيث كان الموظف المغضوب عليه في الماضي ينقل إليها كعقاب إلا أن الوضع اختلف تمامًا بعد بناء السد. أما أبو المجد مصطفي 70 عامًا مهندس كهرباء فيقول: عشنا في تحد كبير مع الوقت واعتبرنا أنفسنا جنودًا في معركة حربية كي ننجز المشروع والذي لقب بمعجزة القرن العشرين لافتًا إلي أن بناء السد يعتبر جامعة تخرج منها العديد من العمال والمهندسين يضيف: مرتبي وقتها كان 9 جنيهات وذلك في عام 1961.. وعن المواقف التي لا ينساها أن المهندس صدقي سليمان أنه كان ينام فوق السد الرملي لمتابعة الأعمال طوال اليوم. ويلفت صلاح جابر 65 سنة إلي أن بناء السد أكسبهم الإنسانية حيث أنه ذهب إلي أسوان بعد القرار الجمهوري بتحويل جميع طلاب المدارس الصناعية بمختلف تخصصاتهم إلي هناك ويقول: أجرينا الامتحانات وأخذنا الدبلوم الفني من هناك ويطلق عليه دبلوم السد العالي ومنا من أكمل دراسته في الجامعة.. وعن يومهم في العمل قال: كنا نستيقظ في الرابعة والنصف صباحًا ونركب قطار السد العالي والذي كان يتحرك في الخامسة تمامًا متجهًا إلي موقع العمل وكنا نأخذ راحة في فترة الظهيرة لتناول الغداء لافتا إلي أن الهيئة وفرت لهم مطاعم كانت تقدم وجبات لا يتعدي سعرها 3 قروش. أضاف أنني كنت أعشق العمل في المشروع وأذكر أنني تأخرت علي القطار ذات مرة وذهبت إلي الموقع سيرًا علي الأقدام لمسافة أكثر من 20 كيلو مترا في حرارة الشمس الحارقة وذلك حبًا في المشروع وأذكر أنني كنت طالبا مشاغبا وعاملاً مشاغبًا وقد كنت من أوائل العمال الذين عبروا النيل علي الصخور التي وضعت قبل ردم السد. ويحكي واقعة طريفة حدثت له فيقول إن المرتبات تأخرت في شهر من الأشهر وذهبت إلي الوزير صدقي سليمان وزير السد العال وأخبرته بالأمر فأخذني في سيارته الخاصةي إلي إدارة الحسابات وأخذ قطعة خشب وضرب بها الموظفين وأحضر لي المرتب. ويشير عبدالرازق عبدالمنعم مهندس إلي أن الروح الجماعية كانت سمة للعمل في المشروع ولم يكن هناك فرق بين عامل أو مهندس وكنا نرتدي نفس الزي الأفارول وأذكر أنه في إحدي المرات انفجر لغم فجأة وأصيب الكثير من العمال وتوفي بعضهم كما مات بعض العمال من حرارة الشمس الحارقة ومع ذلك لم نتأثر ولم نشعر بخوف بل زادنا ذلك حماسا حيث أننا وهبنا أنفسنا وأرواحنا لإنجاز هذا المشروع أضاف عبدالرازق أن من ينكر فضل الخبراء الروس فهو جاحد وناكر للجميل فقد ساعدونا واشتركوا معنا في البناء والتشييد كأنهم مثلنا تمامًا ويلفت إلي أنه بالرغم من أن أهل النوبة تضرروا من تهجيرهم ونقلهم من أرضهم إلا أن الدولة عوضتهم بالكثير. ويروي توفيق حسن فني كهرباء أن الحكومة وفرت لنا كل سبل الراحة فكانت تنظم حفلات غنائية سنويا وغني فيها كبار المطربين مثل عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وصباح وشادية. أضاف أنه لا ينسي أحد أصدقائه من محافظة بورسعيد وكان دائمًا ينام في القطار أثناء عودتنا للسكن وعندما يستيقظ يجد نفسه في المخازن بأبو الريش ويضطر للعودة مشيا علي الأقدام.. وكنا مقسمين إلي مجموعات ونتنافس في إنجاز العمل.. أما الموقف الذي لا أنساه أبدًا هو خبر وفاة عبدالناصر وكان يومًا صعبًا علينا جميعًا حيث كان يزورنا كل عام في شهر يناير وافتقدناه كثيرًا بعد الوفاة. وعن النوبيين يقول: أنا أصلا من النوبة وقد ساعد المشروع علي تطوير فكرنا وفتح آفاق جديدة لنا حيث أنني لم أكن لأسمح لبناتي بالذهاب إلي الجامعة بسبب بعد المسافة أما الآن بعد عملية التهجير وجمع النوبيين في مكان واحد أصبح الأمر أسهل بالنسبة لنا موضحًا أن هجرة النوبيين مثلت تضحية كبيرة منهم وأنا ضد الشائعات التي روجت أنهم رفضوا التهجير وقاوموه ويثبت كلامي أن الأهالي تركوا منازلهم وسط احتفالات موسيقية بالطبل والزمر والزغاريد تعبيرًا عن فرحتهم. وعن المخاطر التي كانوا يواجهونها يوميًا قال توفيق أنه لا ينسي أن أحد زملائه فقد حياته صعقًا بكهرباء الضغط العالي أثناء تجربة أحد المولدات أضاف أنهم كانوا يقيمون احتفالات مشتركة مع الخبراء الروس كما وفرت لهم الوزارة شاشات سينمائية عملاقة وكانت تعرض لهم أحدث الأفلام. ويري أن بناء السد ساعد علي تطوير مدينة أسوان من جهة أخري حيث استخدمت المعدات في تطوير المدينة.