إحدي النتائج المهمة التي خرج بها التقرير الثاني لمرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية حول اتجاهات النخبة العربية في الإصلاح، أن النخبة - التي شملتها الدراسة- تري أن مكافحة الفساد في المجتمعات العربية باتت وظيفة جديدة مضافة إلي وظائف الدولة العربية. بالفعل هي نتيجة مهمة ومثيرة في آن واحد. فالمعروف أن الدولة، أي دولة، لها وظائف بعضها كلاسيكي، وبعضها مستحدث. أهم هذه الوظائف هي حماية الثغور، وفرض الأمن، وإقرار العدالة، وإدارة الماكينة البيروقراطية، وصنع السياسات العامة، وإدارة الاقتصاد علي المستوي الكلي، والحفاظ علي التنوع الديني والإثني والعرقي، وصيانة البيئة. هذه الوظائف، وغيرها، لا تستطيع سوي الدولة القيام بها. وفي ظل أفكار "الطريق الثالث" التي راجت في أوروبا في التسعينيات من القرن الماضي، أعيد الاعتبار لدور الدولة في القيام بوظائفها، خاصة في علاقتها بكل من القطاع الخاص والمجتمع المدني، بعد أن كانت برامج الإصلاح الهيكلي التي روج لها كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، قد قوضت كثيرا من دور الدولة، مما أدي إلي نتائج كارثية في بعض المجتمعات، خاصة الأفريقية. نعود إلي رأي شريحة من النخبة العربية التي تري أن محاربة الفساد تعد من وظائف الدولة. أمر لافت، لكنه مبرر ومفهوم. فالدولة هي الكيان السيادي الذي يقوم علي رعاية الصالح العام بمعناه الواسع، ومكافحة الفساد الذي يستشري في كافة مظاهر الحياة، هو إحدي مسئولياتها، لاسيما أنه لا يوجد طرف آخر يعنيه الأمر بالدرجة نفسها، أو يمتلك القدرات التي تمتلكها الدولة حتي يكون بمقدوره تفكيك شبكات الفساد، وتحقيق المساواة، والعدالة، والنظام في المجتمع. وأكاد أجزم أن شرعية الدولة العربية المعاصرة، التي تحاصرها الهزائم العسكرية، والإخفاقات الاقتصادية، والتفسخ الاجتماعي، أصبحت مرتبطة بمكافحة الفساد، إذ لم يعد لها إنجاز آخر سواه. هناك دول لا تزال أراضيها محتلة مثل فلسطين، وسوريا، والعراق. وهناك دول تعاني من تفسخ داخلي يتراوح بين الانهيار الشامل مثل الصومال، وبين التفسخ الجزئي مثل السودان، واليمن، وجزر القمر. وكما أن هناك دول الشمال العربي- أي النفطية منها- هناك دول الجنوب العربي التي تعاني من زيادة السكان والتدهور الاقتصادي، والترهل الاجتماعي، وتزايد معدلات العنف. ويعد غياب الديمقراطية سمة عامة في الدول العربية، الغنية منها والفقيرة، المتماسكة منها والتي تعاني من تفسخ، والناجحة منها في إدارة التنوع، وتلك التي لا يزال التنوع الديني أو الإثني أو اللغوي يشكل تحديا جما بالنسبة لها. القاسم المشترك في الدول العربية، بالإضافة إلي عوامل اللغة والدين والثقافة، هو غياب الديمقراطية. ويعد الفساد هو القاسم المشترك الآخر. ولمَ الاستغراب؟ فإن غياب الديمقراطية وشيوع الفساد وجهان لعملة واحدة. من هنا فإن الدولة العربية المعاصرة لم يعد في إمكانها- علي الأقل في الأمد المنظور- تحقيق نصر عسكري، أو إنجاز اقتصادي، كل ما يمكنها تحقيقه هو الإنجاز السياسي أي التحول الديمقراطي، ومكافحة الفساد. في هذا السياق يمكن أن نفهم لماذا طالبت شريحة من النخبة الدولة العربية بمكافحة الفساد، باعتباره إحدي وظائفها. أسباب الفساد، قد تكون معروفة، وقتلت بحثا، من تداخل علاقات السلطة بالمال، وتدني أجور البيروقراطية، وغياب الشفافية في المعاملات الحكومية، الخ. وإذا كانت أسباب الفساد معروفة، فإن تداعياته أيضا معروفة مثل التهام الموارد المحدودة، وتسميم النشاط السياسي، وإشاعة أجواء من الإحباط لدي قطاعات واسعة من المجتمع، وحرمان المجتمعات العربية من الكفاءات التي تواجه خيارين أحلاهما مر إما الهجرة، أو الانزواء والشكوي. البحث في مستقبل مفعم بالشفافية والمساءلة أمر أساسي، ليس فقط لانتظام السياسة والاقتصاد، وضح دماء النزاهة السياسية في شرايين المجتمع، ولكن أيضا لإيجاد مداخل جديدة لتجاوز أزمة الشرعية في البلدان العربية. وإذا افترضنا وجود إتجاه جاد لمواجهة الفساد، فإن هناك حزمة من السياسات والإجراءات ينبغي اتباعها، وهي في النهاية جزء من أجندة إصلاح ديمقراطي شامل. من أبرز ملامحها وجود حرية إعلامية في استقصاء وكشف الفساد، وبرلمانات قادرة علي القيام بوظائفها الرقابية، وقضاء مستقل يحقق العدالة دون إبطاء أو تسويف أو محاباة، وأجهزة للمساءلة المالية والإدارية تتعقب الفساد والمفسدين، ومنافسة سياسية بين أحزاب وتيارات لها حضور جماهيري. هذه هي الأعمدة الخمسة لمحاربة الفساد، وغيابها يؤدي بالضرورة إلي استشرائه. تكميم الأفواه يعني غياب الشفافية، وضعف البرلمانات يؤدي إلي تغييب الصالح العام، وتسييس وبطء إجراءات التقاضي يخل بالمساواة في المراكز القانونية بين المواطنين، وضعف الأجهزة الرقابية، وتبعيتها للسلطة التنفيذية يجعل منها أداة للتوظيف السياسي أكثر منها مؤسسات لتعقب الفساد، وأخيرا فإن غياب المنافسة السياسية يشجع علي الصفقات أكثر ما يساعد علي التفاعل الديمقراطي الحقيقي. إذا كانت شريحة من النخبة العربية تري أن مكافحة الفساد إحدي وظائف الدولة العربية، فإن مستقبل هذه الدولة بات علي المحك.